الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} جملة مستأنفة تفيد تعميم أحوال فضائل الإنفاق بعد أن خُصّص الكلام بالإنفاق للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله، فاسم الموصول مبتدأ، وجملة {فلهم أجرهم} خبر المبتدأ. وأَدخل الفاء في خبر الموصول للتنبيه على تسبّب استحقاق الأجر على الإنفاق لأنّ المبتدأ لما كان مشتملاً على صلة مقصود منها التعميم، والتعليل، والإيماء إلى علّة بناء الخبر على المبتدأ وهي ينفقون صَحّ إدخال الفاء في خبره كما تدخل في جواب الشرط؛ لأنّ أصل الفاء الدلالة على التسبّب وما أدخلت في جواب الشرط إلاّ لذلك. والسرّ: الخفاء. والعلانية: الجهر والظهور. وذكر عند ربّهم لتعظيم شأن الأجر. وقوله: {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} مقابل قوله: {وما للظالمين من أنصار} [البقرة: 270] إذ هو تهديد لمانعِي الصدقات بإسلام الناس إياهم عند حلول المصائب بهم، وهذا بشارة للمنفقين بطيب العيش في الدنيا فلا يخافون اعتداء المعتدين لأنّ الله أكسبهم محبة الناس إياهم، ولا تحلّ بهم المصائب المحزنة إلاّ ما لا يسلم منه أحد ممّا هو معتاد في إبانه. أما انتفاء الخوف والحزن عنهم في الآخرة فقد علم من قوله: {فلهم أجرهم عند ربهم}. ورُفع خوف في نفي الجنس إذ لا يتوهم نفي الفرد لأنّ الخوف من المعاني التي هي أجناس محضة لا أفراد لها كما تقدّم في قوله تعالى: {لا بيع فيه ولا خلة} [البقرة: 254]، ومنه ما في حديث أم زرع: «لا حَرٌ ولا قرٌ ولا مَخَافَةٌ ولا سَآمَةٌ».
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)} نَظَم القرآنُ أهمّ أصول حفظِ مال الأمَّة في سِلك هاته الآيات. فبعد أن ابتدأ بأعظم تلك الأصول وهو تأسيس مال للأمة به قوام أمرها، يؤخذ من أهل الأموال أخذا عدْلاً مما كان فضلاً عن الغنى فقرضه على الناس، يؤخذ من أغنيائهم فيردّ على فقرائهم، سواء في ذلك ما كان مفروضاً وهو الزكاة أو تطوّعاً وهو الصدقة، فأطنب في الحثّ عليه، والترغيب في ثوابه، والتحذير من إمساكه، ما كان فيه موعظة لمن اتّعظ، عَطف الكلام إلى إبطال وسيلة كانت من أسباب ابتزاز الأغنياء أموال المحتاجين إليهم، وهي المعاملة بالربا الذي لقّبه النبي صلى الله عليه وسلم ربَا الجاهليةِ، وهو أن يعطي المدين مالاً لدائنه زائداً على قدر الدين لأجل الانتظار، فإذا حلّ الأجل ولم يدفع زَاد في الدين، يقولون: إمّا أن تَقْضيَ وإمّا أن تُربِي. وقد كان ذلك شائعاً في الجاهلية كذا قال الفقهاء. والظاهر أنّهم كانوا يأخذون الربا على المدين من وقت إسلافه وكلّما طلبَ النظرة أعطى ربا آخر، وربّما تسامح بعضهم في ذلك. وكان العباس بنُ عبد المطلب مشتهراً بالمراباة في الجاهلية، وجاء في خطبة حجّة الوداع " ألا وإنّ ربا الجاهلية موضوع وإنّ أول ربا أبْدَأ به ربا عمّي عباس بن عبد المطلب ". وجملة {الذين يأكلون الربوا} استئناف، وجيء بالموصول للدلالة على علّة بناء الخبر وهو قوله: {لا يقومون} إلى آخره. والأكل في الحقيقة ابتلاعُ الطعام، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص، وأصله تمثيل، ثم صار حقيقة عرفية فقالوا: أكل مال الناس {إن الذين يأكلون أموال اليتامى} [النساء: 10] {ألا تأكلوا أموالكم} [الصافات: 91، 92]، ولا يختصّ بأخذ الباطل ففي القرآن {فإن طبْن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء: 4]. والربا: اسم على وزن فِعَل بكسر الفاء وفتح العين لعلّهم خفّفوه من الرباء بالمد فصيّروه اسم مصدر، لفعل رَبَا الشيء يربو رَبْواً بسكون الباء على القياس كما في «الصحاح» وبضم الراء والباء كعُلُو وربّاء بكسر الراء وبالمد مثل الرِّماء إذا زاد قال تعالى: {فلا يربو عند الله} [الروم: 39]، وقال: {اهتَزّتْ ورَبَتْ} [الحج: 5]، ولكونه من ذوات الواو ثني على رِبَواننِ. وكتب بالألف، وكتبه بعض الكوفيين بالياء نظراً لجواز الإمالة فيه لمكان كسرة الراء ثم ثنّوه بالياء لأجل الكسرة أيضاً قال الزجاج: ما رأيت خطأ أشنع من هذا، ألا يكفيَهم الخَطأ في الخطّ حتى أخطؤوا في التثنية كيف وهم يقرؤون {وما آتيتم من رِبا لتُربُوَ} [الروم: 39] بفتحة على الواو {في أموال الناس} [الروم: 39] يشير إلى قراءة عاصم والأعمش، وهما كوفيان، وبقراءتهما يقرأ أهل الكوفة. وكُتب الربا في المصحف حيثما وقع بواو بعدها ألف، والشأن أن يكتب ألفاً، فقال صاحب «الكشاف»: كتبت كذلك على لغة من يفخّم أي ينحو بالألف منحى الواو، والتفخيم عكس الإمالة، وهذا بعيد؛ إذ ليس التفخيم لغة قريش حتى يكتب بها المصحف. وقال المبرّد: كتب كذلك للفرق بين الربا والزنا، وهو أبعد لأنّ سياق الكلام لا يترك اشتبَاهاً بينهما من جهة المعنى إلاَّ في قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنا} [الإسراء: 32]. وقال الفراء: إنّ العرب تعلّموا الخطّ من أهل الحيرة وهم نبط يقولون في الربا: رِبَوْ بواو ساكنة فكتبت كذلك، وهذا أبعد من الجميع. والذي عندي أنّ الصحابة كتبوه بالواو ليشيروا إلى أصله كما كتبوا الألفات المنقلبة عن الياء في أواسط الكلمات بياءات عليها ألفات، وكأنَّهم أرادوا في ابتداء الأمر أن يجعلوا الرسم مشيراً إلى أصول الكلمات ثم استعجلوا فلم يطّرد في رسمهم، ولذلك كتبوا الزكاة بالواو، وكتبوا الصلاة بالواو تنبيهاً على أنّ أصلها هو الركوع من تحريك الصَّلْوَيْن لا من الاصطلاء. وقال صاحب «الكشاف»: وكتبوا بعدها ألفاً تشبيهاً بواو الجمع. وعندي أنّ هذا لا معنى للتعليل به، بل إنّما كتبوا الألف بعدها عوضاً عن أن يضعوا الألف فوق الواو، كما وضعوا المنقلب عن ياء ألفاً فوق الياء لئلاّ يقرأها الناس الربُو. وأريد بالذين يأكلون الربا هنا من كان على دين الجاهلية؛ لأن هذا الوعيد والتشنيع لا يناسب إلاّ التوجّه إليهم لأنّ ذلك من جملة أحوال كفرهم وهم لا يرعوون عنها ما داموا على كفرهم. أما المسلمون فسبق لهم تشريع بتحريم الربا بقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} في سورة آل عمران (130)، وهم لا يقولون إنّما البيع مثل الربا، فجعل الله هذا الوعيد من جملة أصناف العذاب خاصاً للكافرين لأجل ما تفرّع عن كفرهم من وضع الربا. وتقدم ذلك كلّه إنكارُ القرآن على أهل الجاهلية إعطاءهم الربا، وهو من أول ما نعاه القرآن عليهم في مكة، فقد جاء في سورة الروم (39): وما آتيتم من ربا لتُربوا في أموال الناس فلا يَربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المُضعفون وهو خطاب للمشركين لأنّ السورة مكية ولأنّ بعد الآية قوْلُه: الله خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء}. ومن عادات القرآن أن يذكر أحوال الكفّار إغلاظاً عليهم، وتعريضاً بتخويف المسلمين، ليكرّه إياهم لأحوال أهل الكفر. وقد قال ابن عباس: كلّ ما جاء في القرآن من ذمّ أحوال الكفار فمراد منه أيضاً تحذير المسلمين من مثله في الإسلام، ولذلك قال الله تعالى: {ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 275] وقال تعالى: {والله لا يحب كلّ كفّار أثيم} [البقرة: 276]. ثم عطف إلى خطاب المسلمين فقال: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله} [البقرة: 278] الآيات، ولعلّ بعض المسلمين لم ينكفّ عن تعاطي الربا أو لعلّ بعضهم فتن بقول الكفار: إنّما البيع مثل الربا. فكانت آية سورة آل عمران مبدأ التحريم، وكانت هذه الآية إغلاق باب المعذرة في أكل الربا وبياناً لكيفية تدارك ما سلف منه. والربا يقع على وجهين: أحدهما السلف بزيادة على ما يعطيه المسلف، والثاني السلف بدون زيادة إلى أجل، يعني فإذا لم يوف المستسلف أداء الدين عند الأجل كان عليه أن يزيد فيه زيادة يتّفقان عليها عند حلول كل أجل. وقوله: {لا يقومون} حقيقة القيام النهوض والاستقلال، ويطلق مجازاً على تحسّن الحال، وعلى القوة، من ذلك قامت السوق، وقامت الحرب. فإن كان القيام المنفي هنا القيام الحقيقي فالمعنى: لا يقومون يوم يقوم الناس لرب العالمين إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان، أي إلاّ قياماً كقيام الذي يتخبّطه الشيطان، وإن كان القيامَ المجازي فالمعنى إما على أنّ حرصهم ونشاطهم في معاملات الربا كقيام المجنون تشنيعاً لجشعهم، قاله ابن عطية، ويجوز على هذا أن يكون المعنى تشبيه ما يعجب الناس من استقامة حالهم، ووفرة مالهم، وقوة تجارتهم، بما يظهر من حال الذي يتخبّطه الشيطان حتى تخاله قوياً سريع الحركة، مع أنّه لا يملك لنفسه شيئاً. فالآية على المعنى الحقيقي وعيد لهم بابتداء تعذيبهم من وقت القيام للحساب إلى أن يدخلوا النار، وهذا هو الظاهر وهو المناسب لقوله: {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا}، وهي على المعنى المجازي تشنيع، أو توعّد بسوء الحال في الدنيا ولُقِّيَ المتَاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة. والتخبّط مطاوع خَبَطه إذا ضربه ضرباً شديداً فاضطرب له، أي تحرّك تحرّكاً شديداً، ولما كان من لازم هذا التحرّك عدم الاتّساق، أطلق التخبّط على اضطراب الإنسان من غير اتّساق. ثم إنّهم يعمدون إلى فعل المطاوعة فيجعلونه متعدّياً إلى مفعول إذا أرادوا الاختصار، فعِوضاً عن أنّ يقولوا خبطه فتخبّط يقولون تخبّطه كما قالوا: اضطَرّه إلى كذا. فتخبُّط الشيطان المرءَ جَعْله إياه متخبّطاً، أي متحرّكاً على غير اتّساق. والذي يتخبّطه الشيطان هو المجنون الذيب أصابه الصرع. فيضطرب به اضطرابات، ويسقط على الأرض إذا أراد القيام، فلما شبهت الهيأة بالهيأة جيء في لفظ الهيأة المشبه بها بالألفاظ الموضوعة للدلالة عليها في كلامهم وإلاّ لَما فهمت الهيأة المشبّه بها، وقد عُرِف ذلك عندهم. قال الأعشى يصف ناقته بالنشاط وسرعة السير، بعد أن سارت ليلاً كاملاً: وتُصبح عن غِب السري وكأنّها *** ألمّ بها من طائف الجنِّ أوْلَقُ والمسّ في الأصل هو اللمس باليد كقولها: «المَسُّ مَس أرنب»، وهو إذا أطلق معرّفاً بدون عهدِ مسَ معروف دل عندهم على مسّ الجن، فيقولون: رجل ممسوس أي مجنون، وإنّما احتيج إلى زيادة قوله من المسّ ليظهر المراد من تخبّط الشيطان فلا يظنّ أنّه تخبّط مجازي بمعنى الوسوسة. و (مِن) ابتدائية متعلقة بيتخبّطه لا محالة. وهذا عند المعتزلة جارٍ على ما عهده العربي مثل قوله: «طَلْعُها كأنّه رُؤوس الشياطين»، وقول امرئ القيس: ومسنونةٌ زُرقٌ كأنياببِ أغوال *** إلاّ أنّ هذا أثره مشاهد وعلته مُتخيَّلة والآخران متخيَّلان لأنّهم ينكرون تأثير الشياطين بغير الوسوسة. وعندنا هو أيضاً مبني على تخييلهم والصرع إنّما يكون من علل تعتري الجسم مثل فيضان المِرّة عند الأطبّاء المتقدمين وتشنّج المجموع العصبي عند المتأخرين، إلاّ أنّه يجوز عندنا أن تكون هاته العلل كلّها تنشأ في الأصل من توجّهات شيطانية، فإنّ عوالم المجرّدات كالأرواح لم تنكشف أسرارها لنا حتى الآن ولعلّ لها ارتباطات شعاعية هي مصادر الكون والفساد. وقوله: {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا} الإشارة إلى {كما يقوم} لأنّ ما مصدرية، والباء سببية. والمحكيّ عنهم بقوله: {قالوا إنما البيع مثل الربوا}، إن كان قولاً لسانياً فالمراد به قول بعضهم أو قول دُعاتهم وهم المنافقون بالمدينة، ظنّوا بسوء فهمهم أنّ تحريم الربا اضطراب في حيننِ تحليل البيع، لقصد أن يفتنوا المسلمين في صحة أحكام شريعتهم؛ إذ يتعذّر أن يكون كل من أكل الربا قال هذا الكلام، وإن كان قولاً حالياً بحيث يقوله كل من يأكل الربا لو سأله سائل عن وجه تعاطيه الربا، فهو استعارة. ويجوز أن يكون {قالوا} مجازاً لأنّ اعتقادهم مساواة البيع للربا يستلزم أن يقوله قائل، فأطلق القول وأريد لازمه، وهو الاعتقاد به. وقولهم: {إنما البيع مثل الربوا} قصر إضافي للردّ على من زعم تخالف حكمهما فحرم الربا وأحل البيع، ولمّا صُرح فيه بلفظ مِثل ساغ أن يقال البيع مثل الربا كما يسوغ أن يقال الربا مثل البيع، ولا يقال: إنّ الظاهر أن يقولوا إنّما الربا مثل البيع لأنّه هو الذي قصد إلحاقه به، كما في سؤال الكشاف وبنى عليه جعل الكلام من قبيل المبالغة؛ لأنّا نقول: ليسوا هم بصدد إلحاق الفروع بالأصول على طريقة القياس بل هم كانوا يتعاطون الربا والبيع، فهما في الخطور بأذهانهم سواء، غير أنّهم لما سمعوا بتحريم الربا وبقاء البيع على الإباحة سبق البيعُ حينئذ إلى أذهانهم فأحضروه ليثبتوا به إباحة الربا، أو أنّهم جعلوا البيع هو الأصل تعريضاً بالإسلام في تحريمه الربا على الطريقة المسمّاة في الأصول بقياس العكس؛ لأنّ قياس العكس إنّما يُلتجأ إليه عند كفاح المناظرة؛ لا في وقت استنباط المجتهد في خاصّة نفسه. وأرادوا بالبيع هنا بيع التجارة لا بيع المحتاج سلعته برأس ماله. وقوله: {وأحل الله البيع وحرم الربوا} من كلام الله تعالى جواب لهم وللمسلمين، فهو إعراض عن مجادلتهم إذ لا جدوى فيها لأنّهم قالوا ذلك كفراً ونفاقاً فليسوا ممّن تشملهم أحكام الإسلام. وهو إقناع للمسلمين بأنّ ما قاله الكفار هو شبهة محضة، وأنّ الله العليم قد حرّم هذا وأباح ذاك، وما ذلك إلاّ لحكمة وفروق معتبرة لو تدبّرها أهل التدبّر لأدركوا الفرق بين البيع والربا، وليس في هذا الجواب كشف للشبهة فهو ممّا وكله الله تعالى لمعرفة أهل العلم من المؤمنين، مع أنّ ذكر تحريم الربا عقب التحريض على الصدقات يومئ إلى كشف الشبهة. واعلم أنّ مبنى شبهة القائلين {إنما البيع مثل الربوا} أنّ التجارة فيها زيادة على ثمن المبيعات لقصد انتفاع التاجر في مقابلة جلب السلع وإرصادها للطالبين في البيع الناض، ثم لأجل انتظار الثمن في البيع المؤجّل، فكذلك إذا أسلف عشرة دراهم مثلاً على أنّه يرجعها له أحد عشر درهماً، فهو قد أعطاه هذا الدرهم الزائد لأجل إعداد ماله لمن يستسلفه؛ لأنّ المقرض تصدّى لإقراضه وأعدّ ماله لأجله، ثم لأجل انتظار ذلك بعد محل أجله. وكشف هاته الشبهة قد تصدّى له القفال فقال: «من باع ثوباً يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابَلاً بالعشرين، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صارت العشرون عوضاً للثوب في المالية فلم يأخذ البائع من المشتري شيئاً بدون عوض، أما إذا أقرضه عشرة بعشرين فقد أخذ المقرض العشرة الزائدة من غير عوض. ولا يقال إنّ الزائد عوض الإمهال لأنّ الإمهال ليس مالاً أو شيئاً يشار إليه حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة». ومرجع هذه التفرقة إلى أنّها مجرّد اصطلاح اعتباري فهي تفرقة قاصرة. وأشار الفخر في أثناء تقرير حكمة تحريم الربا إلى تفرقة أخرى زادها البيضاوي تحريراً، حاصلها أنّ الذي يبيع الشيء المساوي عشرة بأحد عشر يكون قد مكّن المشتري من الانتفاع بالمبيع إما بذاته وإما بالتجارة به، فذلك الزائد لأجل تلك المنفعَة وهي مسيس الحاجة أو توقع الرّواج والربح، وأما الذي دفع درهماً لأجل السلف فإنّه لم يحصّل منفعة أكثر من مقدار المال الذي أخذه، ولا يقال: إنّه يستطيع أن يتَّجر به فيربح لأنّ هذه منفعة موهومة غير محقّقة الحصول، مع أنّ أخذ الزائد أمر محقّق على كل تقدير. وهذه التفرقة أقرب من تفرقة القفال، لكنّها يردّ عليها أنّ انتفاع المقترض بالمال فيه سدّ حاجاته فهو كانتفاع المشتري بالسلعة، وأما تصدِّيهِ للمتاجرة بمال القرض أو بالسلعة المشتراة فأمر نادر فيها. فالوجه عندي في التفرقة بين البيع والربا أنّ مرجعها إلى التعليل بالمظنّة مراعاة للفرق بين حالي المقترض والمشتري، فقد كان الاقتراض لدفع حاجة المقترض للإنفاق على نفسه وأهله لأنّهم كانوا يعدّون التداين همّاً وكرباً، وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم وحال التاجر حال التفضّل. وكذلك اختلاف حالي المُسْلِف والبائع، فحال باذل ماله للمحتاجين لينتفع بما يدفعونه من الربا فيزيدهم ضيقاً؛ لأنّ المُتسلّف مظنّة الحاجة، ألا تراه ليس بيده مال، وحال بائع السلعة تجارةً حالُ من تجشّم مشقّة لجلب ما يحتاجه المتفضّلون وإعداده لهم عند دعاء حاجتهم إليه مع بذلهم له ما بيدهم من المال. فالتجارة معاملة بين غنيّين: ألا ترى أنّ كليهما باذل لما لا يحتاج إليه وآخذٌ ما يحتاج إليه، فالمتسلّف مظنّة الفقر، والمشتري مظنّة الغِنى، فلذلك حرم الربا لأنّه استغلال لحاجة الفقير وأحلّ البيع لأنّه إعانة لطالب الحاجات. فتبيّن أنّ الإقراض من نوع المواساةِ والمعروف، وأنّها مؤكّدة التعيُّن على المواسي وجوباً أو ندْباً، وأيَّا ما كان فلا يحل للمقرض أن يأخذ أجراً على عمل المعروف. فأما الذي يستقرض مالاً ليتجَّر به أو ليوسع تجارته فليس مظنّة الحاجة، فلم يكن من أهل استحقاق مواساة المسلمين، فلذلك لا يجب على الغني إقراضه بحال فإذا قرضه فقد تطوّع بمعروف. وكفى بهذا تفرقة بين الحالين. وقد ذكر الفخر لحكمة تحريم الربا أسباباً أربعة: أولها أنّ فيه أخذ مال الغير بغير عوض، وأورد عليه ما تقدم في الفرق بينه وبين البيع، وهو فرق غير وجيه. الثاني أنّ في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاقّ الاشتغال في الاكتساب؛ لأنّه إذا تعوّد صاحب المال أخذ الربا خفّ عنه اكتساب المعيشة، فإذا فشا في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق لأنّ مصلحة العالم لا تنتظم إلاّ بالتجارة والصناعة والعمارة. الثالث أنّه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض. الرابع أنّ الغالب في المقرِض أن يكون غنياً، وفي المستقرض أن يكون فقيراً، فلو أبيح الربا لتمكّن الغني من أخذ مال الضعيف. وقد أشرنا فيما مرّ في الفرق بين الربا والبيع إلى علة تحريمه وسنبسط ذلك عند قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} من سورة آل عمران (130). هذا وقد تعرّضت الآية إلى حكم هو تحليل البيع وتحريم الربا؛ لأنّها من قول الله تعالى لإعلان هذا التشريع بعد تقديم الموعظة بين يديه. و (أل) في كل من البيع والربا لتعريف الجنس، فثبت بها حكم أصلين عظيمين في معاملات الناس محتاج إليهما فيها: أحدهما يسمّى بيعاً والآخر يسمّى ربا. أولهما مباح معتبر كونه حاجياً للأمة، وثانيهما محرّم ألغيت حاجيته لما عارضها من المفسدة. وظاهر تعريف الجنس أنّ الله أحل البيع بجنسه فيشمل التحليلُ سائر أفراده، وأنّه حرم الربا بجنسه كذلك. ولما كان معنى أحل الله البيع} أذِنَ فيه كان في قوة قضية موجَبة، فلم يقتض استغراق الجنس بالصيغة، ولم تقم قرينة على قصد الاستغراق قيامَها في نحو الحمدُ لله، فبقي محتملاً شمول الحِلّ لسائر أفراد البيع. ولما كان البيع قد تعتريه أسباب توجب فساده وحرمته تتبّعت الشريعة أسباب تحريمه، فتعطّل احتمال الاستغراق في شأنه في هذه الآية. أما معنى قوله: {وحرم الربوا} فهو في حكم المنفي لأنّ حرم في معنى منع، فكان مقتضياً استغراق جنس الربا بالصيغة؛ إذ لا يطرأ عليه ما يصيّره حلالاً. ثم اختلف علماء الإسلام في أنّ لفظ الربا في الآية باق على معناه المعروف في اللغة، أو هو منقول إلى معنى جديد في اصطلاح الشرع. فذَهَب ابن عباس وابن عمر ومعاوية إلى أنّه باق على معناه المعروف وهو ربا الجاهلية، أعني الزيادة لأجل التأخير، وتمسك ابن عباس بحديث أسامة " إنّما الربا في النسيئة " ولم يأخذ بما ورد في إثبات ربا الفضل بدون نسيئة، قال الفخر: «ولعلّه لا يرى تخصيص القرآن بخبر الآحاد»، يعني أنّه حمل {أحل الله البيع} على عمومه. وأما جمهور العلماء فذهبوا إلى أنّ الربا منقول في عرف الشرع إلى معنى جديد كما دلّت عليه أحاديث كثيرة، وإلى هذا نحا عمر بن الخطاب وعائشة وأبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت بل رأى عمر أنّ لفظ الربا نقل إلى معنى جديد ولم يبيَّن جميعُ المراد منه فكأنّه عنده ممّا يشبه المجمل، فقد حَكى عنه ابن رشد في المقدمات أنّه قال: «كان من أخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا فتوفي رسول الله ولم يفسرها، وإنّكم تزعمون أنّا نعلم أبواب الربا، ولأنْ أكون أعلَمُها أحبُ إليّ من أن يكون لي مثل مصر وكورها» قال ابن رشد: ولم يرُد عمر بذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفسر آية الربا، وإنّما أراد والله أعلم أنّه لم يعمّ وجوه الربا بالنص عليها. وقال ابن العربي: بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الربا في ستة وخمسين حديثاً. والوجهُ عندي أن ليس مراد عمر أنّ لفظ الربا مجمل لأنّه قابله بالبيان وبالتفسير، بل أراد أنّ تحقيق حكمه في صور البيوع الكثيرة خفي لم يَعمَّه النبي صلى الله عليه وسلم بالتنصيص؛ لأنّ المتقدمين لا يتوخّون في عباراتهم ما يساوي المعاني الاصطلاحية، فهؤلاء الحنفية سمّوا المخصّصات بيانَ تغيير. وذكر ابن العربي في العواصم أنّ أهل الحديث يتوسّعون في معنى البيان. وفي تفسير الفخر عن الشافعي أنّ قوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربوا} من المجملات التي لا يجوز التمسك بها، أي بعمومَيْها: عموم البيععِ وعموممِ الربا؛ لأنّه إن كان المراد جنس البيع وجنس الزيادة لزم بيان أيّ بيع وأيّ زيادة، وإن كان المراد كل بيع وكل زيادة فما من بيع إلاّ وفيه زيادة، فأول الآية أباح جميع البيوع وآخرها حرم الجميع، فوجب الرجوع إلى بيان الرسول عليه السلام. والذي حمل الجمهورَ على اعتبار لفظ الربا مستعملاً في معنى جديد أحاديثُ وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل دلت على تفسير الربا بما هو أعم من ربا الجاهلية المعروف عندهم قبل الإسلام، وأصولها ستة أحاديث: الحديث الأول حديث أبي سعيد الخِدْري: «الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة والبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتَّمر بالتمر والمِلح بالمِلح مِثْلاً بِمثْللٍ يداً بيد، فمن زاد وازداد فقد أربى، الآخِذ والمعطي في ذلك سواء». الثاني حديث عبادة بن الصامت: «الذهبُ بالذهب تِبْرُها وعَيْنُها والفضّة بالفضّة تِبْرها وعَينها والبُرّ بالبُرّ مُدّاً بمدّ وَالشعير بالشعير مُداً بمد والتمر بالتمر مُداً بمد والمِلْح بالملح مداً بمد، فمن زاد واستزاد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضّة والفضّة بالذهب أكثرهما يداً بيد، وأما النسيئة فلا» رواه أبو داود، فسمّاه في هذين الحديثين ربا. الثالث حديث أبي سعيد: أنّ بلالاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر بَرْنِيَ، فقال له: من أين هذا فقال بلال: تَمر كان عندنا رديء فبعتُ منه صاعين بصاع لطَعم النبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوّهْ عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ثم اشتر من هذا» فسمّى التفاضل ربا. الرابع حديث «الموطأ» و«البخاري» عن ابن سعيد وأبي هريرة أنّ سواد بن غَزِيَّةِ جاء في خيبر بتمر جَنِيب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أكُلُّ تمرِ خيبرَ هكذا " فقال: «يا رسول الله إنّا لنأخُذُ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تَفْعَلْ، بع الجمعْ بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جَنِيبا ". الخامس حديث عائشة في «صحيح البخاري»: قالت " لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا قرأها النبي ثم حَرّم التجارة في الخمر " فظاهره أنّ تحريم التجارة في الخمر كان عملاً بآية النهي عن الربا وليس في تجارة الخمر معنى من معنى الربا المعروف عندهم وإنّما هو بيع فاسد. السادس حديث الدارقطني ورواه ابن وهب عن مالك أنّ العالية بنت أيْنَع وفدت إلى المدينة من الكوفة، فلقيت عائشة فأخبرتْها أنّها باعت من زيد بن أرقم في الكوفة جارية بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم إنّ زيداً باع الجارية فاشترتها العالية منه بستمائة نقداً، فقالت لها عائشة: «بئسما شَرَيْتتِ وما اشتريتتِ، أبْلِغِي زيداً أنّه قد أبطل جِهاده مع رسول الله إلاّ أن يتوب»، قالت: فقلت لها: «أرأيتتِ إن لم آخذ إلاّ رأس مالي» قالت: «فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف» فجعلته عائشة من الربا ولذلك تلت الآية. فلأجل هذه الأحاديث الستة أثبت الفقهاء ثلاثة أنواع للربا في اصطلاح الشرع: الأول ربا الجاهلية وهو زيادة على الدين لأجل التأخير. الثاني ربا الفضل وهو زيادة في أحد العوضين في بيع الصنف بصنفه من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وعُبادة بن الصامت. الثالث ربا النسيئة وهو بيع شيء من تلك الأصناف بمثله مؤخّراً. وزاد المالكية نوعاً رابعاً: وهو ما يؤول إلى واحد من الأصناف بتهمة التحيّل على الربا، وترجمُه في المدوّنة ببيوع الآجال، ودليل مالك فيه حديث العالية. ومن العلماء من زعم أنّ لفظ الربا يشمل كل بيع فاسد أخذا من حديث في تحريم تجارة الخمر، وإليه مال ابن العربي. وعندي أنّ أظهر المذاهب في هذا مذهب ابن عباس، وأنّ أحاديث ربا الفضل تحمل على حديث أسامة " إنّما الربا في النسيئة " ليجمع بين الحديثين، وتسمية التفاضل بالربا في حديثي أبي سعيد وعُبادة بن الصامت دليل على ما قلناه، وأنّ ما راعاه مالك من إبطال ما يفضي إلى تعامل الربا إن صدر من مواقع التهمة رعي حسن، وما عداه إغراق في الاحتياط، وقد يؤخذ من بعض أقوال مالك في «الموطأ» وغيره أنّ انتفاء التهمة لا يبطل العقد. ولا متمسّك في نحو حديث عائشة في زيد بن أرقم لأنّ المسلمين في أمرهم الأول كانوا قريبي عهد بربا الجاهلية، فكان حالهم مقتضياً لسدّ الذرائع. وفي «تفسير القرطبي»: كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أنّ النهي عن بيع الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة متفاضلاً إنّما ورد في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر ولا في المصوغ، فروى مسلم عن عبادة بن الصامت قال: غزونا وعَلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنيَة من ذهب، فأمر معاوية رجالاً ببيعها في أعطياتتِ الناس، فتنازع الناس في ذلك، فبلغ ذلك عُبادة بن الصامت فقام فقال: «سمعتُ رسول الله ينهَى عن بيع الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة إلاّ سواء بسواء عيْناً بعين، من زاد وازداد فقد أربَى» فبلغ ذلك معاويةَ فقام خطيباً فقال: «ألا ما بال أقوام يتحدّثون عن رسول الله أحاديث قد كنّا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه» فقال عبادة بن الصامت: «لنحدّثن بما سمعنا من رسول الله وإن كَرِه معاوية». والظاهر أنّ الآية لم يُقصد منها إلاّ ربا الجاهلية، وأنّ ما عداه من المعاملات الباطلة التي فيها أكل مال بالباطل مُندرجة في أدلة أخرى. وقوله: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى} الآية تفريع على الوعيد في قوله: {الذين يأكلون الربوا}. والمجيء بمعنى العلم والبلاغ، أي من علم هذا الوعيد، وهذا عذر لمن استرسل على معاملة الربا قبل بلوغ التحريم إليه، فالمراد بالموعظة هذه الآية وآية آل عمران. والانتهاء مطاوع نهاه إذا صدّه عمّا لا يليق، وكأنّه مشتق من النُّهَى بضم النون وهو العقل. ومعنى «فله ما سلف»، أي ما سلف قبْضُه من مال الربا لا ما سلف عقده ولم يُقبض، بقرينة قوله الآتي {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} [البقرة: 279]. وقوله: {وأمره إلى الله} فرَضَوا فيه احتمالات يرجع بعضها إلى رجوع الضمير إلى «من جاءه» وبعضها إلى رجوعه إلى ما سلف، والأظهر أنّه راجع إلى من جاءه لأنّه المقصود، وأنّ معنى {وأمره إلى الله} أنّ أمر جزائه على الانتهاء موكول إلى الله تعالى، وهذا من الإيهام المقصود منه التفخيم. فالمقصود الوعد بقرينة مقابلته بالوعيد في قوله: {ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. وجُعل العائد خالداً في النار إما لأنّ المراد العود إلى قوله: {إنما البيع مثل الربوا}، أي عاد إلى استحلال الربا وذلك نِفاق؛ فإنّ كثيراً منهم قد شقّ عليهم ترك التعامل بالربا، فعلم الله منهم ذلك وجعَل عدم إقلاعهم عنه أمارة على كذب إيمانهم، فالخلود على حقيقته. وإما لأنّ المراد العود إلى المعاملة بالربا، وهو الظاهر من مقابلته بقوله: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى} والخلود طول المكث كقول لبيد: فوقفْتُ أسألُها وكيفَ سؤالُنا *** صُمّاً خَوَالِدَ ما يَبِين كلامُها ومنه: خلَّد الله مُلك فلان. وتمسك بظاهر هاته الآية ونحوها الخوارج القائلون بتكفير مرتكب الكبيرة كما تمسكوا بنظائرها. وغفلوا عن تغليظ وعيد الله تعالى في وقت نزول القرآن؛ إذ الناس يومئذ قريبٌ عهدهم بكفر. ولا بد من الجمع بين أدلّة الكتاب والسنة.
{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)} استئناف لبيان سوء عاقبة الربا في الدنيا بعد أن بينت عاقبته في الآخرة، فهو استئناف بياني لتوقُّع سؤاللِ من يسأل عن حال هؤلاء الذين لا ينتهون بموعظة الله. وقوله: {ويربى الصدقات} استطراد لبيان عاقبة الصدقة في الدنيا أيضاً ببيان أنّ المتصدق يفوز بالخير في الدارين كما باء المرابي بالشر فيهما، فهذا وعد ووعيد دنيويان. والمَحْق هو كالمَحْو: بمعنى إزالة الشيء، ومنه محاق القمر ذهاب نوره ليلة السِّرار. ومعنى {يمحق الله الربا} أنّه يتلف ما حصل منه في الدنيا، {ويربي الصدقات} أي يضاعف ثوابها لأنّ الصدقة لا تقبل الزيادة إلاّ بمعنى زيادة ثوابها، وقد جاء نظيره في قوله في الحديث: " مَن تصدّق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلاّ طيباً تلقاها الرحمان بيمينه وكِلْتَا يديه يمين فيُرْبيها له كما يُرْبِي أحدُكم فُلُوّه ". ولما جعل المحق بالربا وجُعل الإرباء بالصدقات كانت المقابلة مؤذنة بحذف مقابلين آخرين، والمعنى: يمحق الله الربا ويعاقب عليه، ويربي الصدقات ويبارك لصاحبها، على طريقة الاحتباك. وجملة: {والله لا يحب كل كفار أثيم} معترضة بين أحكام الربا. ولما كان شأن الاعتراض ألاّ يخلو من مناسبة بينه وبين سياق الكلام، كان الإخبار بأنّ الله لا يحبّ جميع الكافرين مؤذناً بأنّ الربا من شعار أهل الكفر، وأنّهم الذين استباحوه فقالوا إنّما البيع مثل الربا، فكان هذا تعريضاً بأنّ المرابي متَّسم بخلال أهل الشرك. ومفاد التركيب أنّ الله لا يحبّ أحداً من الكافرين الآثمين لأنّ (كل) من صيغ العموم، فهي موضوعة لاستغراق أفراد ما تضاف إليه وليست موضوعة للدلالة على صُبرة مجموعة، ولذلك يقولون هي موضوعة للكل الجميعي، وأما الكل المَجموعي فلا تستعمل فيه كل إلاّ مجازاً. فإذا أضيفت (كل) إلى اسم استغرقتْ جميع أفراده، سواء ذلك في الإثبات وفي النفي، فإذا دخل النفي على (كل) كان المعنى عموم النفي لسائر الأفراد؛ لأنّ النفي كيفية تعرض للجملة فالأصل فيه أن يبْقَى مدلول الجملة كما هو، إلاّ أنه يتكيّف بالسلْب عوضاً عن تكيّفه بالإيجاب، فإذا قلت كلُّ الديار مَا دخلتُه، أو لم أدخل كلّ دار، أو كلّ دار لم أدخل، أفاد ذلك نفي دخولك أيةَ دار من الديار، كما أنّ مفاده في حالة الإثبات ثبوت دخولك كلّ دار، ولذلك كان الرفع والنصب للفظ كل سواء في المعنى في قول أبي النَّجم: قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي *** عَلَيّ ذنباً كُلُّه لم أصنع كما قال سيبويه: إنّه لو نصب لكان أولى؛ لأنّ النصب لا يفسد معنى ولا يخلّ بميزان. ولا تخرج (كل) عن إفادة العموم إلاّ إذا استعملها المتكلم في خبر يريد به إبطال خبر وقعت فيه (كل) صريحاً أو تقديراً، كأنْ يقول أحد: كل الفقهاء يحرّم أكل لحوم السباع، فتقول له: ما كل العلماء يحرّم لحوم السباع، فأنت تريد إبطال الكلية فيبقى البعض، وكذلك في ردّ الاعتقادات المخطئة كقول المثَل: «ما كل بيضاء شَحْمة»، فإنّه لردّ اعتقاد ذلك كما قال زفر بن الحارث الكلابي: وكُنَّا حَسِبْنا كُلّ بَيْضَاء شحمةً *** وقد نَظر الشيخ عبد القادر الجرجاني إلى هذا الاستعمال الأخير فطرده في استعمال (كل) إذا وقعت في حَيّز النفي بعد أداة النفي وأطال في بيان ذلك في كتابه دلائل الإعجاز، وزعم أنّ رجز أبي النجم يتغيّر معناه باختلاف رفع (كل) ونصبه في قوله «كلّه لم أصنع». وقد تعقّبه العلامة التفتازاني تعقّباً مجملاً بأنّ ما قاله أغلبي، وأنّه قد تخلّف في مواضع. وقفّيت أنا على أثر التفتازاني فبيّنت في تعليقي «الإيجاز على دلائل الإعجاز» أنّ الغالب هو العكس وحاصله ما ذكرت هنا.
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)} جملة معترضة لمقابلة الذم بالمدح، وقد تقدم تفسير نظيرتها قريباً. والمقصود التعريض بأنّ الصفات المقابلة لهاته الصفات صفتُ غير المؤمنين. والمناسبة تزداد ظهوراً لقوله: {وأتوا الزكاة}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} قوله: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا} إفضاء إلى التشريع بعد أن قُدم أمامَه من الموعظة ما هيّأ النفوس إليه. فإن كان قوله: {وأحل الله البيع وحرم الربوا} [البقرة: 275] من كلام الذين قالوا: {إنما البيع مثل الربوا} [البقرة: 275] فظاهر، وإن كان من كلام الله تعالى فهو تشريع وقع في سياق الرد، فلم يكتف بتشريع غير مقصود ولذا احتيج إلى هذا التشريع الصريح المقصود، وما تقدم كلّه وصف لحال أهل الجاهلية وما بقي منه في صدر الإسلام قبل التحريم. وأمروا بتقوى الله قبل الأمر بترك الربا لأنّ تقْوَى الله هي أصل الامتثال والاجتناب؛ ولأن ترك الربا من جملتها. فهو كالأمرِ بطريق برهاني. ومعنى {وذروا ما بقي من الربوا} الآية اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا، فهذا مقابل قوله: «فله ما سلف»، فكان الذي سلفَ قبضُه قبل نزول الآية معفوا عنه وما لم يقبض مأموراً بتركه. قيل نزلت هذه الآية خطاباً لثقيف أهل الطائف إذ دخلوا في الإسلام بعد فتح مكة وبعد حصار الطائف على صلح وقع بينهم وبين عتّاب بن أسَيْد الذي أولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة بعد الفتح بسبب أنّهم كانت لهم معاملات بالربا مع قريش، فاشترطت ثقيف قبل النزول على الإسلام أنّ كل ربا لهم على الناس يأخذونه، وكل ربا عليهم فهو موضوع، وقبل منه رسول الله شَرْطَهم، ثم أنزل الله تعالى هذه الآية خطاباً لهم وكانوا حديثي عهد بإسلام فقالوا: لا يَدَيْ لنا بحرب الله ورسوله. فقوله: {إن كنتم مؤمنين} معناه إن كنتم مؤمنين حقاً، فلا ينافي قوله: {يأيها الذين آمنوا} إذ معناه يأيها الذين دخلوا في الإيمان، واندفعت أشكالات عرضت. وقوله: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} يعني إن تمسكتم بالشرط فقد انتقض الصلح بيننا، فاعلموا أنّ الحرب عادت جذعة، فهذا كقوله: «وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء». وتَنكير حرب لقصد تعظيم أمرها؛ ولأجل هذا المقصد عدل عن إضافة الحرب إلى الله وجيء عوضاً عنها بمن ونسبت إلى الله؛ لأنّها بإذنه على سبيل مجاز الإسناد، وإلى رسوله لأنّه المبلغ والمباشر، وهذا هو الظاهر. فإذا صح ما ذكر في سبب نزولها فهو من تجويز الاجتهاد للنبيء صلى الله عليه وسلم في الأحكام إذْ قبل من ثقيف النزول على اقتضاء ما لَهم من الربا عند أهل مكة، وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى: {وذروا ما بقى من الربوا}؛ فيحتمل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى الصلح مع ثقيف على دخولهم في الإسلام مع تمكينهم مما لهم قبل قريش من أموال الربا الثابتة في ذممهم قبل التحريم مصلحة، إذ الشأن أنّ ما سبق التشريع لا ينقض كتقرير أنكحة المشركين، فلم يُقِرّه الله على ذلك وأمر بالانكفاف عن قبض مال الربا بعد التحريم ولو كان العقد قبل التحريم، ولذلك جعلهم على خيرة من أمرهم في الصلح الذي عقدوه. ودلت الآية على أنّ مجرد العقد الفاسد لا يوجب فوات التدارك إلاّ بعد القبض، ولذلك جاء قبلها «فله ما سلف» وجاء هنا {وذروا ما بقي من الربوا} إلى قوله {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم}. وهذه الآية أصل عظيم في البيوع الفاسدة تقتضي نقضها، وانتقالَ الضمان بالقبض، والفواتَ بانتقال الملك، والرجوع بها إلى رؤوس الأموال أو إلى القيم إن فاتت، لأنّ القيمة بدل من رأس المال. ورؤوس الأموال أصولها، فهو من إطلاق الرأس على الأصل، وفي الحديث " رأس الأمر الإسلام ". ومعنى {لا تظلِمون ولا تظلَمون} لا تأخذون مال الغير ولا يأخذ غيركم أموالكم. وقرأ الجمهور {فاذَنوا} بهمزة وصل وفتح الذاللِ أمراً من أذِنَ، وقرأه حمزة وأبو بكر وخلف {فآذِنوا} بهمزة قطع بعدها ألف وبذال مكسورة أمرا من آذن بكذا إذا أعلم به أي فآذنوا أنفسكم ومن حولكم.
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} عطف على قوله: {فلكم رؤوس أموالكم} لأنّ ظاهر الجواب أنّهم يسترجعونها معجّلة، إذ العقود قد فسخت. فعطف عليه حالة أخرى، والمعطوفُ عليه حالة مقدّرة مفهومة لأنّ الجزاء يدل على التسبّب، والأصل حصول المشروط عند الشرط. والمعنى وإن حصل ذو عسرة، أي غريم معسر. وفي الآية حجة على أنّ (ذُو) تضاف لغير ما يفيد شيئاً شريفاً. والنظِرة بكسر الظاء الانتظار. والميسُرة بضم السين في قراءة نافع وبفتحها في قراءة الباقين اسم لليسر وهو ضدّ العسر بضم العين وهي مَفْعُلة كمَشرُقَة ومَشْرُبَة ومألُكَة ومَقْدُرة، قال أبو علي ومَفْعَلة بالفتح أكثر في كلامهم. وجملة فنظرة جواب الشرط، والخبر محذوف، أي فنظرة له. والصيغة طلب، وهي محتملة للوجوب والندب. فإن أريد بالعسرة العُدْم أي نفاد مالِهِ كلّه فالطلب للوجوب، والمقصود به إبطال حكم بيع المعسر واسترقاقه في الدّين إذا لم يكن له وفاء. وقد قيل: إن ذلك كان حكماً في الجاهلية وهو حكم قديم في الأمم كان من حكم المصريين، ففي القرآن الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى: {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} [يوسف: 76]. وكان في شريعة الرومان استرقاق المدين، وأحسب أن في شريعة التوراة قريباً من هذا، وروي أنّه كان في صدر الإسلام، ولم يثبت. وإن أريد بالعسرة ضيق الحال وإضرار المدين بتعجيل القضاء فالطلب يحتمل الوجوب، وقد قال به بعض الفقهاء، ويحتمل الندب، وهو قول مالك والجمهور، فمن لم يشأ لم ينظره ولو ببيع جميع ماله لأنّ هذا حق يمكن استيفاؤه، والإنظار معروف والمعروف لا يجب. غير أن المتأخرين بقرطبة كانوا لا يقضون عليه بتعجيل الدفع، ويؤجلونه بالاجتهاد لئلاّ يدخل عليه مضرة بتعجيل بيع ما بِهِ الخلاصُ. ومورد الآية على ديون معاملات الربا، لكنّ الجمهور عمّموها في جميع المعاملات ولم يعتبروا خصوص السبب لأنّه لما أبطل حكم الربا صار رأس المال ديناً بحتاً، فما عيّن له من طلب الإنظار في الآية حكم ثابت للدين كلُه. وخالف شريح فخَصّ الآية بالديون التي كانت على ربا ثم أبطل رباها. وقوله: {وأن تصدقوا خير لكم} أي أنّ إسقاط الدين عن المعسر والتنفيس عليه بإغنائه أفضل، وجعله الله صدقة لأنّ فيه تفريج الكرب وإغاثة الملهوف. وقرأ الجمهور من العشرة {تصدقوا} بتشديد الصاد على أنّ أصله تتصدّقوا فقلبت التاء الثانية صاداً لتقاربهما وأدغمت في الصاد، وقرأه عاصم بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين للتخفيف.
{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} جيء بقوله: {واتقوا يوماً} تذييلاً لهاته الأحكام لأنّه صالح للترهيب من ارتكاب ما نهي عنه والترغيب في فعل ما أمر به أو ندب إليه، لأن في ترك المنهيات سلامة من آثامها، وفي فعل المطلوبات استكثاراً من ثوابها، والكل يرجع إلى اتّقاء ذلك اليوم الذي تُطلب فيه السلامة وكثرة أسباب النجاح. وفي «البخاري» عن ابن عباس أنّ هذه آخر آية نزلت. وعن ابن عباس هي آخر ما نزل فقال جبريل: «يا محمد ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة». وهذا الذي عليه الجمهور، قاله ابن عباس والسُّدي والضحاك وابن جريج وابن جبير ومقاتل. وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها واحداً وعشرين يوماً، وقيل واحداً وثمانين، وقيل سبعة أيام، وقيل تسعة، وقيل ثلاث ساعات. وقد قيل: إنّ آخر آية هي آية الكلالة، وقيل غير ذلك، وقد استقصى الأقوال صاحب الإتقان. وقرأه الجمهور ترجعون بضم التاء وفتح الجيم، وقرأ يعقوب بفتح التاء وكسر الجيم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)} لما اهتم القرآن بنظام أحوال المسلمين في أموالهم فابتدأ بما به قوام عامّتهم من مواساة الفقير وإغاثة الملهوف، ووضّح ذلك بما فيه عبرة للمعتبر، ثم عطف عليه التحذير من مضايقة المحتاجين إلى المواساة مضايقة الربا مع ما في تلك المعاملات من المفاسد، ثلّث ببيان التوثّقات المالية من الإشهاد، وما يقوم مقامه وهو الرهن والائتمان. وإنّ تحديد التوثّق في المعاملات من أعظم وسائل بثّ الثقة بين المتعاملين، وذلك من شأنه تكثير عقود المعاملات ودوران دولاب التموّل. والجملة استئناف ابتدائي، والمناسبة في الانتقال ظاهرة عقب الكلام على غرمَاء أهل الربا. والتداين من أعظم أسباب رواج المعاملات لأنّ المقتدر على تنمية المال قد يعوزه المال فيضطرّ إلى التداين ليظهر مواهبه في التجارة أو الصناعة أو الزراعة، ولأنّ المترفّه قد ينضب المال من بين يديه وله قِبل به بعد حين، فإذا لم يتداين اختلّ نظام ماله، فشرّع الله تعالى للناس بَقاء التداين المتعارف بينهم كيلا يظنّوا أنّ تحريم الربا والرجوع بالمتعاملين إلى رؤوس أموالهم إبطال للتداين كلّه. وأفاد ذلك التشريعَ بوضعه في تشريع آخر مكمّل له وهو التوثّق له بالكتابة والإشهاد. والخطاب موجّه للمؤمنين أي لمجموعهم، والمقصود منه خصوص المتداينين، والأخصّ بالخطاب هو المدين لأنّ من حق عليه أن يجعل دائنه مطمئن البال على ماله. فعلى المستقرِض أن يطلب الكتابة وإن لم يسألها الدائن، ويؤخذ هذا مما حكاه الله في سورة القَصص عن موسى وشعيب، إذ استأجرَ شعيبٌ موسى. فلما تراوضا على الإجارة وتعيين أجلها قال موسى: «واللَّهُ على ما نَقول وكيل»، فذلك إشهاد على نفسه لمؤاجره دون أن يسألَه شعيب ذلك. والتداين تفاعل، وأطلق هنا مع أنّ الفعل صادر من جهة واحدة وهي جهة المُسَلِّف لأنّك تقول ادّان منه فَدانَه، فالمفاعلة منظور فيها إلى المخاطبين هم مجموع الأمة؛ لأنّ في المجموع دائناً ومديناً، فصار المجموع مشتملاً على جانبين. ولك أن تجعل المفاعلة على غير بابها كما تقول تَداينت من زيد. وزيادة قيد {بدين} إما لِمجرد الإطناب، كما يقولون رأيتُه بعيني ولمَسته بيدي، وإما ليكون معاداً للضمير في قوله فاكتبوه، ولولا ذكره لقال فاكتبوا الدّين فلم يكن النظم بذلك الحسن، ولأنّه أبين لتنويع الدين إلى مؤجّل وحالّ، قاله في «الكشاف». وقال الطيبي عن صاحب الفرائد: يمكن أن يظنّ استعمال التداين مجازاً في الوعد كقول رؤبة: داينتُ أرْوَى والديونُ تُقضَى *** فمطَلَتْ بعضاً وأدّت بعضاً فذكر قوله «بدين» دفعاً لتوهم المجاز. والدين في كلام العرب العوض المؤخّر قال شاعرهم: وعدَتْنَا بدرهمَيْنَا طِلاء *** وشِواءً معجّلا غيرَ دَيْن وقوله: {إلى أجل مسمى} طلب تعيين الآجال للديون لئلاّ يقعوا في الخصومات والتداعي في المرادات، فأدمج تشريع التأجيل في أثناء تشريع التسجيل. والأجل مدة من الزمان محدودة النهاية مجعولة ظرفاً لعمل غير مطلوب فيه المبادرة، لرغبة تمام ذلك العمل عند انتهاء تلك المدة أو في أثنائها. والأجل اسم وليس بمصدر، والمصدر التأجيل، وهو إعطاء الأجل. ولما فيه من معنى التوسعة في العمل أطلق الأجل على التأخير، وقد تقدم في قوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن} [البقرة: 234] وقوله: {حتى يبلغ الكتاب أجله} [البقرة: 235]. والمُسمّى حقيقته المميّز باسم يميّزه عمّا يشابهه في جنسه أو نوعه، فمنه أسماء الأعلام وأسماء الأجناس، والمسمّى هنا مستعار للمعيّن المحدود، وإنّما يقصد تحديده بنهاية من الأزمان المعلومة عند الناس، فشبه ذلك بالتحديد بوضع الاسم بجامع التعيين؛ إذ لا يمكن تمييزه عن أمثاله إلاّ بذلك، فأطق عليه لفظ التسمية، ومنه قول الفقهاء المَهر المسمى. فالمعنى أجل معيّن بنهايته. والدين لا يكون إلاّ إلى أجل، فالمقصود من وصف الدين بهذا الوصف، هو وصف أجللٍ بمسمّى إدماجاً للأمر بتعيين الأجل. وقوله: {بدين إلى أجل مسمى} يعمّ كل دين: من قرض أو من بيع أو غير ذلك. وعن ابن عباس أنّها نزلت في السلَم يعني بيعَ الثمار ونحوها من المثليات في ذمة البائع إذا كان ذا ذمة إلى أجللٍ وكان السلَم من معاملات أهل المدينة. ومعنى كلامه أنّ بيع السلم سبب نزول الآية، ومن المقرر في الأصول أنّ السبب الخاص لا يخصّص العموم. والأمر في «فاكتبوه» قيل للاستحباب، وهو قول الجمهور ومالككٍ وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وعليه فيكون قوله: {فإن أمن بعضكم بعضاً} [البقرة: 283] تكميلاً لمعنى الاستحباب. وقيل الأمر للوجوب، قاله ابن جريج والشعبي وعطاء والنخعي، وروي عن أبي سعيد الخدري، وهو قول داوود، واختاره الطبَري. ولعلّ القائلين بوجوب الإشهاد الآتي عند قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} قائلون بوجوب الكتابة، وعليه فقوله: {فإن أمن بعضكم بعضاً} [البقرة: 283] تخصيص لعموم أزمنة الوجوب لأنّ الأمر للتكرار، لا سيما مع التعليق بالشرط، وسمّاه الأقدمون في عباراتهم نسخاً. والقصد من الأمر بالكتابة التوثّق للحقوق وقطع أسباب الخصومات، وتنظيم معاملات الأمة، وإمكان الاطّلاع على العقود الفاسدة. والأرجح أنّ الأمر للوجوب فإنّه الأصل في الأمر، وقد تأكّد بهذه المؤكّدات، وأنّ قوله: {فإن أمن بعضكم بعضاً} الآية رخصة خاصة بحالة الائتمان بين المتعاقدين كما سيأتي فإنّ حالة الائتمان حالة سالمة من تطرّق التناكر والخصام لأنّ الله تعالى أراد من الأمة قطع أسباب التهارج والفوضى فأوجب عليهم التوثّق في مقامات المشاحنة، لئلاّ يتساهلوا ابتداء ثم يفضوا إلى المنازعة في العاقبة، ويظهر لي أنّ في الوجوب نفياً للحرج عن الدائن إذا طلب من مدينه الكتب حتى لا يَعُد المدينُ ذلك من سوء الظنّ به، فإنّ في القوانين معذرة للمتعاملين. وقال ابن عطية: «الصحيح عدم الوجوب لأنّ للمرء أن يهب هذا الحق ويتركه بإجماع، فكيف يجب عليه أن يكتبه، وإنّما هو ندب للاحتياط». وهذا كلام قد يروج في بادئ الرأي ولكنّه مردود بأنّ مقام التوثّق غير مقام التبرّع. ومقصد الشريعة تنبيه أصحاب الحقوق حتى لا يتساهلوا ثم يندموا وليس المقصود إبطال ائتمان بعضهم بعضاً، كما أنّ من مقاصدها دفع موجدة الغريم من توثّق دائنه إذا علم أنّه بأمر من الله ومن مقاصدها قطع أسباب الخصام. وقوله: {فاكتبوه} يشمل حالتين: الأولى حالة كتابة المتداينين بخطّيهما أو خطّ أحدهما ويسلّمه للآخر إذا كانا يحسناننِ الكتابة معاً، لأنّ جهل أحدهما بها ينفي ثقته بكتابة الآخر. والثانية حالة كتابة ثالث يتوسّط بينهما. فيكتب ما تعاقدا عليه ويشهد عليه شاهدان ويسلمه بيد صاحب الحق إذا كانا لا يحسنان الكتابة أو أحدهما، وهذه غالب أحوال العرب عند نزول الآية. فكانت الأميّة بينهم فاشية، وإنّما كانت الكتابة في الأنبار والحِيرة وبعض جهات اليمن وفيمن يتعلّمها قليلاً من مكة والمدينة. وقوله: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} أمر للمتداينِين بأن يوسّطوا كاتباً يكتب بينهم لأنّ غالب حالهم جهل الكتابة. فعل الأمر به إلى الكاتب مبالغة في أمر المتعاقدين بالاستكتاب. والعرب تعمد إلى المقصود فتنزّله منزلة الوسيلة مبالغة في حصوله كقولهم في الأمر ليكن ولدُك مهذّباً، وفي النهي لا تنس ما أوصيتُك، ولا أعرِفَنَّك تفعلُ كذا. فمتعلِّق فعل الطلب هو ظرف بينكم وليس هذا أمراً للكاتب، وأما أمر الكاتب فهو قوله: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب}. وقوله: {بالعدل} أي بالحق، وليس العدل هنا بمعنى العدالة التي يوصف بها الشاهد فيقال رجل عدل لأنّ وجود الباء يصرف عن ذلك، ونظيره قوله الآتي: {فليملل وليه بالعدل}. ولذلك قصر المفسرون قوله: {فاكتبوه} على أن يكتبه كاتب غير المتداينين لأنّه الغالب، ولتعقيبه بقوله: وليكتب بينكم كاتب بالعدل، فإنّه كالبيان لكيفية فاكتبوه، على أنّ كتابة المتعاقدين إن كانا يحسنانها تؤخذ بلحن الخطاب أو فحواه. ولذلك كانت الآية حجة عند جمهور العلماء لصحة الاحتجاج بالخط، فإنّ استكتاب الكاتب إنّما ينفع بقراءة خطه. وقوله: {ولا يأب كاتب أن يكتب} نهي لمن تطْلب منه الكتابة بين المتداينين عن الامتناع منها إذا دُعي إليها، فهذا حكم آخر وليس تأكيداً لقوله: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} لما علمت آنفاً من كون ذلك حكماً موجّهاً للمتداينين. وهذا النهي قد اختلف في مقتضاه فقيل نهي تحريم، فالذي يدعي لأن يكتب بين المتداينين يحرم عليه الامتناع. وعليه فالإجابة للكتابة فرض عين، وهو قول الربيع ومجاهد وعطاء والطبري، وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه. وقيل: إنّما تجب الإجابة وجوباً عينياً إذا لم يكن في الموضع إلاّ كاتب واحد، فإن كان غيره فهو واجب على الكفاية وهو قول الحسن، ومعناه أنّه موكول إلى ديانتهم لأنّهم إذا تمالؤوا على الامتناع أثموا جميعاً، ولو قيل: إنّه واجب على الكفاية على من يعرف الكتابة من أهل مكان المتداينين، وإنّه يتعيّن بتعيين طالب التوثق أحدَهم لكان وجيهاً، والأحق بطلب التوثّق هو المستقرض كما تقدم آنفاً. وقيل: إنّما يجب على الكاتب في حال فراغه، قاله السُّدي. وقيل: هو منسوخ بقوله: {ولا يضارّ كاتب ولا شهيد} وهو قول الضحاك، وروي عن عطاء، وفي هذا نظر لأنّ الحضور للكتابة بين المتداينين ليس من الإضرار إلاّ في أحوال نادرة كبُعد مكان المتداينين من مكان الكاتب. وعن الشعبي وابن جريج وابن زيد أنّه منسوخ بقوله تعالى بعد هذا {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي ائتمن أمانته} [البقرة: 283] وسيأتي لنا إبطال ذلك. وعلى هذا الخلاف يختلف في جواز الأجر على الكتابة بين المتداينين، لأنّها إن كانت واجبة فلا أجر عليها، وإلاّ فالأجر جائز. ويلحق بالتداين جميع المعاملات التي يطلب فيها التوثّق بالكتابة والإشهاد، وسيأتي الكلام على حكم أداء الشهادة عند قوله تعالى: {ولا يضارّ كاتب ولا شهيد}. وقوله: {كما علمه الله} أي كتابة تشابه الذي علّمه الله أن يكتبها، والمراد بالمشابهة المطابقة لا المقاربة، فهي مثل قوله: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} [البقرة: 137]، فالكاف في موضع المفعول المطلق لأنّها صفة لمصدر محذوف. و(ما) موصولة. ومعنى ما علّمه الله أنّه يكتب ما يعتقده ولا يجحف أو يوارب، لأنّ الله ما علم إلاّ الحق وهو المستقرّ في فطرة الإنسان، وإنّما ينصرف الناس عنه بالهوى فيبدّلون ويغيّرون وليس ذلك التبديل بالذي علّمهم الله تعالى، وهذا يشير إليه قوله النبي صلى الله عليه وسلم " واستفتتِ نفسَك وإن أفْتَاكَ الناس ". ويجوز أن تكون الكاف لمقابلة الشيء بمكافئه والعوضضِ بمعوضه، أي أن يكتب كتابة تكافئ تعليم الله إياه الكتابة، بأن ينفع الناس بها شكراً على تيسير الله له أسباب علمها، وإنّما يحصل هذا الشكر بأن يكتب ما فيه حفظ الحق ولا يقصر ولا يدلّس، وينشأ عن هذا المعنى من التشبيه معنى التعليل كما في قوله تعالى: {وأحسن كما أحسن الله إليك} [القصص: 77] وقوله: {واذكروه كما هداكم} [البقرة: 198]. والكاف على هذا إما نائبة عن المفعول المطلق أو صفة لمفعول به محذوف على تأويل مصدر فِعل أنْ يَكْتُب بالمكتوب، و(ما) على هذا الوجه مصدرية، وعلى كلا الوجهين فهو متعلق بقوله: {أن يكتب}، وجوّز صاحب «الكشاف» تعليقه بقوله فليكتب فهو وجه في تفسير الآية. وقوله: {فليكتب} تفريع على قوله: {ولا يأب كاتب}، وهو تصريح بمقتضى النهي وتكرير للأمر في قوله: {فاكتبوه}، فهو يفيد تأكيدَ الأمر وتأكيدَ النهي أيضاً، وإنّما أعيد ليُرتَّب عليه قولُه: {وليملل الذي عليه الحق} لبعد الأمر الأول بما وَلِيَه، ومثله قوله تعالى: {اتخذوه} [الأعراف: 148] بعد قوله: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليّهم عجلاً جسداً} [الأعراف: 148] الآية. وقوله: {وليُملل الذي عليه الحق} أمَلّ وأمْلَى لغتان: فالأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد، والثانية لغة تميم، وقد جاء القرآن بهما قال تعالى: {وليملل الذي عليه الحق} وقال: {فهي تملي عليه بكرة وأصيلا} [الفرقان: 5]، قالوا والأصل هو أمللّ ثم أبدلت اللاّم ياء لأنّها أخف؛ أي عكسَ ما فعلوا في قولهم تقضّي البازي إذْ أصله تَقَضض. ومعنى اللفظين أن يلقي كلاماً على سامعه ليكتبه عنه، هكذا فسره في «اللِّسَان» و«القاموس». وهو مقصور في التفسير أحسب أنّه نشأ عن حصر نظرهم في هذه الآية الواردة في غرض الكتابة، وإلاّ فإن قوله تعالى في سورة الفرقان (5): {فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} تشهد بأنّ الإملاء والإملال يكونان لغرض الكتابة ولغرض الرواية والنقل كما في آية الفرقان، ولغرض الحفظ كما يقال مَلّ المؤدب على الصبي للحفظ، وهي طريقة تحفيظ العميان. فتحرير العبارة أن يفسر هذان اللفظان بإلقاء كلاممٍ ليُكتب عنه أو ليُروى أو ليُحفظ، والحق هنا ما حقَّ أي ثبت للدائن. وفي هذا الأمر عبرة للشهود فإنّ منهم من يكتبون في شروط الحُبُس ونحوه ما لم يملله عليهم المشهود عليه إلاّ إذا كان قد فوّض إلى الشاهد الإحاطة بما فيه توثقه لحقّه أو أوقفه عليه قبل عقده على السدارة. والضميران في قوله: وليتق}، وقوله: {ولا يبخس منه} يحتمل أن يعودا إلى الذي عليه الحق لأنّه أقرب مذكور من الضميرين، أي لا يُنقصْ ربّ الدين شيئاً حينَ الإملاء، قاله سعيد بن جبير، وهو على هذا أمر للمدين بأن يقرّ بجميع الدين ولا يغبن الدائن. وعندي أنّ هذا بعيد إذ لا فائدة بهذه الوصاية؛ فلو أخفى المدين شيئاً أو غبن لأنكر عليه ربُّ الديْن لأنّ الكتابة يحضرها كلاهما لقوله تعالى: {وليكتب بينكم}. ويحتمل أن يعود الضميران إلى {كاتب} بقرينة أنّ هذا النهي أشدّ تعلّقاً بالكاتب؛ فإنّه الذي قد يغفل عن بعض ما وقع إملاؤه عليه. والضمير في قوله: {منه} عائد إلى الحق وهو حق لكِلاَ المتداينين، فإذا بخس منه شيئاً أضرّ بأحدهما لا محالة، وهذا إيجاز بديع. والبخْس فسره أهل اللغة بالنقص ويظهر أنّه أخصّ من النقص، فهو نقص بإخفاء. وأقربُ الألفاظ إلى معناه الغبن، قال ابن العربي في الأحكام في سورة الأعراف: «البخس في لسان العرب هو النقص بالتعْييب والتزهِيدِ، أو المخادعة عن القيمة، أو الاحتيال في التزيّد في الكيل أو النقصان منه» أي عن غفلة من صاحب الحق، وهذا هو المناسب في معنى الآية لأنّ المراد النهي عن النقص من الحق عن غفلة من صاحبه، ولذلك نُهي الشاهد أو المدين أو الدائن، وسيجيء في سورة الأعراف عند قوله تعالى: {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} [الأعراف: 85]. وقوله: {فإن كان عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً} السفيه هو مختلّ العقل، وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {سيقول السفهاء من الناس} [البقرة: 142]. والضعيف الصغير، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وله ذرية ضعفاء} [البقرة: 266]. والذي لا يستطيع أن يملّ هو العاجز كمن به بَكَم وعمًى وصمَمٌ جميعاً. ووجه تأكيد الضمير المسْتتر في فعل يُملّ بالضمير البارز هو التمهيد لقوله: {فليملل} لئلا يتوهّم الناس أنّ عجزه يسقط عنه واجب الإشهاد عليه بما يستدينه، وكان الأولياء قبل الإسلام وفي صدره كبراء القرابة. والولي من له ولاية على السفيه والضعيف ومن لا يستطيع أن يملّ كالأب والوصيّ وعرفاء القبيلة، وفي حديث وفد هوازن: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «لِيَرْفَعْ إلَيّ عُرفَاؤُكم أمْرُكم» وكان ذلك في صدر الإسلام وفي الحقوق القَبَلِيَّةِ. ومعنى {بالعدل} أي بالحق. وهذا دليل على أنّ إقرار الوصي والمقدّم في حق المولّى عليه ماضضٍ إذا ظهر سببه، وإنّما لم يعمل به المتأخّرون من الفقهاء سدّاً للذريعة خشية التواطؤ على إضاعة أموال الضعفاء. {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الاخرى}. عطف على {فاكتبوه}، وهو غيره وليس بياناً له إذ لو كان بياناً لما اقترن بالواو. فالمأمور به المتداينون شيآن: الكتابة، والإشهاد عليها. والمقصود من الكتابة ضبط صيغة التعاقد وشروطه وتذكر ذلك خشية النسيان. ومن أجل ذلك سمّاها الفقهاء ذُكْر الحق، وتسمّى عَقداً قال الحارث بن حلزة: حذر الجور والتطاخي وهل ين *** قض ما في المهارق الأهواء قال تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة} [البقرة: 283]، فلم يجعل بين فقدان الكاتب وبين الرهن درجة وهي الشهادة بلا كتابة لأنّ قوله: {ولم تجدوا كاتباً} [البقرة: 283] صار في معنى ولم تجدوا شهادة، ولأجل هذا يجوز أن يكون الكاتب أحد الشاهدين. وإنّما جعَل القرآن كاتباً وشاهدين لندرة الجمع بين معرفة الكتابة وأهلية الشهادة. {واستشهدوا} بمعنى أشهدوا، فالسين والتاء فيه لمجرد التأكيد، ولك أن تجعلهما للطلب أي اطلبوا شهادة شاهدين، فيكون تكليفاً بالسعي للإشهاد وهو التكليف المتعلّق بصاحب الحق. ويكون قوله: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} تكليفاً لمن يَطلب منه صاحبُ الحق أن يَشهد عليهما ألاّ يمتنع. والشهادة حقيقتها الحضور والمشاهدة، والمراد بها هنا حضور خاص وهو حضور لأجل الاطّلاع على التداين، وهذا إطلاق معروف للشهادة على حضورٍ لمشاهدة تعاقدٍ بين متعاقدَيْن أو لسماععِ عقد من عاقد واحد مثل الطلاق والحُبس. وتطلق الشهادة أيضاً على الخبر الذي يخبر به صاحبه عن أمر حصل لقصد الاحتجاج به لمن يزعمه، والاحتجاج به على من ينكره، وهذا هو الوارد في قوله: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور: 4]. وجَعَل المأمورَ به طلب الإشهاد لأنّه الذي في قدرة المكلّف وقد فهم السامع أنّ الغرض من طلب الإشهاد حصوله. ولهذا أمَرَ المستشهَدَ بفتح الهاء بعد ذلك بالامتثال فقال: {ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا}. والأمر في قوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} قيل للوجوب، وهو قول جمهور السلف، وقيل للندب، وهو قول جمهور الفقهاء المتأخرين: مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وسيأتي عند قوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم}. وقوله: {من رجالكم} أي من رجال المسلمين، فحصل به شرطان: أنّهم رجال، وأنّهم ممّن يشملهم الضمير. وضمير جماعة المخاطبين مراد به المسلمون لقوله في طالعة هذه الأحكام يأيها الذين آمنوا. وأما الصبيّ فلم يعتبره الشرع لضعف عقله عن الإحاطة بمواقع الإشهاد ومداخل التهم. والرجل في أصل اللغة يفيد وصف الذكورة فخرجت الإناث، ويفيد البلوغ فخرج الصبيان، والضمير المضاف إليه أفاد وصف الإسلام. فأما الأنثى فيذكر حكمها بعد هذا، وأما الكافر فلأنّ اختلاف الدِّين يوجب التباعد في الأحوال والمعاشرات والآداب فلا تمكن الإحاطة بأحوال العدول والمرتابين من الفريقين، كيف وقد اشترط في تزكية المسلمين شدة المخالطة، ولأنّه قد عرف من غالب أهل الملل استخفاف المخالف في الدين بحقوق مخالفه، وذلك من تخليط الحقوق والجهل بواجبات الدين الإسلامي. فإنّ الأديان السالفة لم تتعرّض لاحترام حقوق المخالفين، فتوَهَم أَتْباعهم دحضها. وقد حكى الله عنهم أنّهم قالوا: «ليس علينا في الأمّيين سبيل». وهذه نصوص التوراة في مواضع كثيرة تنهى عن أشياء أو تأمر بأشياء وتخصّها ببني إسرائيل، وتسوغ مخالفة ذلك مع الغريب، ولم نر في دين من الأديان التصريحَ بالتسوية في الحقوق سوى دين الإسلام، فكيف نعتدّ بشهادة هؤلاء الذين يرون المسلمين مارقين عن دين الحق مناوئين لهم، ويرمون بذلك نبيئهم فمن دونه، فماذا يرجَى من هؤلاء أن يقولوا الحق لهم أو عليهم والنصْرانية تابعة لأحكام التوراة. على أنّ تجافي أهل الأديان أمر كان كالجبليّ فهذا الإسلام مع أمره المسلمين بالعدل مع أهل الذمة لا نرى منهم امتثالاً فيما يأمرهم به في شأنهم. وفي القرآن إيماء إلى هذه العلة «ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأمّيين سبيل». وفي «البخاري»، في حديث أبي قلابة في مجلس عمر بن عبد العزيز. وما روي عن سهل بن أبي حَثْمة الأنصاري: أنّ نفراً من قومه ذهبوا إلى خيبر فتفرّقوا بها، فوجدوا أحدهم قتيلاً، فقالوا للذين وجد فيهم القتيل أنتم قتلتم صاحبنا، قالوا ما قتلنا، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكَوْا إليه، فقال لهم: " تأتون بالبيّنة على من قتله " قالوا: «ما لنا بيّنة»، قال: " فتحلف لكم يهودُ خمسين يميناً " قالوا: «ما يُبالُون أن يقتلونا أجمعين ثم يحلفون»، فكرِه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبطل دمَه ووَدَاه من مال الصدقة. فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم قولَ الأنصار في اليهود: إنّهم ما يبالون أن يقتلوا كل القوم ثم يحلفون. فإن قلت: كيف اعتدتّ الشريعة بيمين المدّعى عليه من الكفار، قلت: اعتدّت بها لأنّها أقصى ما يمكن في دفع الدعوى، فرأتْها الشريعة خيراً من إهمال الدعوى من أصلها. ولأجل هذا اتّفق علماء الإسلام على عدم قبول شهادة أهل الكتاب بين المسلمين في غير الوصية في السفر، واختلفوا في الإشهاد على الوصية في السفر، فقال ابن عباس ومجاهد وأبو موسى الأشعري وشريح بقبول شهادة غير المسلمين في الوصية في السفر، وقضى به أبو موسى الأشعري مدّة قضائه في الكُوفة، وهو قول أحمدَ وسفيانَ الثوري وجماعة من العلماء، وقال الجمهور: لا تجوز شهادة غير المسلمين على المسلمين ورأوا أنّ ما في آية الوصية منسوخ، وهو قول زيد بن أسلم ومالك وأبي حنيفة والشافعي، واختلفوا في شهادة بعضهم على بعض عند قاضي المسلمين فأجازها أبو حنيفة ناظراً في ذلك إلى انتفاء تهمة تساهلهم بحقوق المسلمين، وخالَفه الجمهور، والوجه أنّه يتعذّر لقاضي المسلمين معرفة أمانة بعضهم مع بعض وصدق أخبارهم كما قدمناه آنفاً. وظاهر الآية قبول شهادة العبد العدل وهو قول شريح وعثمان البَتِّي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وعن مجاهد: المراد الأحرار، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، والذي يظهر لي أنّ تخصيص العبيد من عموم الآية بالعرف وبالقياس، أما العرف فلأنّ غالب استعمال لفظ الرجل والرجال ألاّ يرد مُطلقاً إلاّ مراداً به الأحرار، يقولون: رجال القبيلة ورجال الحي، قال محكان التميمي: يا رَبَّةَ البيتتِ قُومي غيرَ صاغِرة *** ضُمي إليككِ رِجَالَ الحَيِّ والغُرَبا وأما القياس فلعدم الاعتداد بهم في المُجتمع لأنّ حالة الرقّ تقطعهم عن غير شؤون مالكيهم فلا يضبطون أحوال المعاملات غالباً؛ ولأنّهم ينشؤون على عدم العناية بالمروءة، فترك اعتبار شهادة العبد معلُول للمظنّة وفي النفس عدم انثلاج لِهذا التعليل. واشتُرط العددُ في الشاهد ولم يكتف بشهادة عدل واحد لأنّ الشهادة لما تعلّقت بحق معيّن لمعيّن اتّهم الشاهد باحتمال أن يتوسّل إليه الظالم الطالب لحق مزعوم فيحمله على تحريف الشهادة، فاحتيج إلى حيطة تدفع التهمة فاشترط فيه الإسلام وكفى به وازعاً، والعدالة لأنّها تزع من حيث الدين والمروءة، وزِيد انضمام ثاننٍ إليه لاستبعاد أن يتواطأ كلا الشاهدين على الزور. فثبت بهذه الآية أنّ التعدّد شرط في الشهادة من حيث هي، بخلاف الرواية لانتفاء التهمة فيها إذ لا تتعلق بحقّ معيّن، ولهذا لو روَى راوٍ حديثاً هو حجة في قضية للراوي فيها حق لَمَا قُبلت روايتُه، وقد كلف عُمَرُ أبا موسى الأشعريّ أن يأتي بشاهد معه على أنّ رسول الله قال: «إذا استأذن أحدكم ثلاثاً ولم يؤذن له فليرجع» إذ كان ذلك في ادّعاء أبي موسى أنّه لما لم يأذنْ له عُمَر في الثالثة رجَع، فشهد له أبو سعيد الخدْري في ملإ من الأنصار. والعدد هو اثنان في المعاملات المالية كما هنا. وقوله: {فإن لم يكونا رجلين} أي لم يكن الشاهدَاننِ رجلين، أي بحيث لم يحضر المعاملة رجلان بل حضر رجل واحد، فرجل وامرأتان يشهدان. فقوله: {فرجل وامرأتان} جواب الشرط، وهو جزء جملة حُذف خبرها لأنّ المقدر أنسب بالخبرية ودليل المحذوف قوله: {واستشهدوا} وقد فهم المحذوف فكيفما قدّرْتَه ساغ لك. وجيء في الآية بكان الناقصة مع التمكّن من أن يقال فإن لم يكنْ رجلان لئلاّ يتوهم منه أنّ شهادة المرأتين لا تقبل إلاّ عند تعذّر الرجلين كما توهّمه قوم، وهو خلاف قول الجمهور لأنّ مقصود الشارع التوسعة على المتعاملين. وفيه مرمى آخر وهو تعويدهم بإدخال المرأة في شؤون الحياة إذ كانت في الجاهلية لا تشترك في هذه الشؤون، فجعل الله المرأتين مقام الرجل الواحد وعلّل ذلك بقوله: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}، وهذه حيطة أخرى من تحريف الشهادة وهي خشية الاشتباه والنسياننِ لأنّ المرأة أضعف من الرجل بأصل الجبلّة بحسب الغالب، والضلال هنا بمعنى النسيان. وقوله: {أن تضل} قرأه الجمهور بفتح همزة أنْ على أنّه محذوف منه لام التعليل كما هو الغالب في الكلام العربي مع أنْ، والتعليل في هذا الكلام ينصرف إلى ما يحتاج فيه إلى أن يُعلّل لقصد إقناع المكلّفين، إذ لا نجد في هذه الجملة حكماً قد لا تطمئنّ إليه النفوس إلاّ جعْلَ عوضضِ الرجل الواحد بامرأتين اثنتين فصُرح بتعليله. واللام المقدرة قبل أنْ متعلقة بالخبر المحذوف في جملة جواب الشرط إذ التقدير فرجل وامرأتان يشهدان أو فليشهد رجل وامرأتان، وقرأوه بنصب {فتذكّر} عطفاً على {أن تضلّ}، وقرأه حمزة بكسر الهمزة على اعتبار إنْ شرطية وتضلّ فعل الشرط، وبرفع تذكرُ على أنّه خبر مبتدأ محذوف بعد الفاء لأنّ الفاء تؤذن بأنّ ما بعدها غير مجزوم والتقدير فهي تذكّرها الأخرى على نحو قوله تعالى: {ومن عاد فينتقم الله منه} [المائدة: 95]. ولما كان «أن تضلّ» في معنى لضلال إحداهما صارت العلّة في الظاهر هي الضلال، وليس كذلك بل العلّة هي ما يترتّب على الضلال من إضاعة المشهود به، فتفرّع عليه قوله: {فتذكر إحداهما الأخرى} لأنّ فتذكّر معطوف على تضلّ بفاء التعقيب فهو من تكملته، والعبرة بآخر الكلام كما قدمناه في قوله تعالى: {أيودّ أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب} [البقرة: 266]، ونظيره كما في «الكشاف» أن تقول: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعِّمَه، وأعددت السلاح أن يجيءَ عدوّ فأدْفَعَه. وفي هذا الاستعمال عدول عن الظاهر وهو أن يقال: أن تذكر إحداهما الأخرى عند نسيانها. ووجَّهه صاحب «الكشاف» بأنّ فيه دلالة على الاهتمام بشأن التذكير حتى صار المتكلم يعلّل بأسبابه المفضية إليه لأجل تحصيله. وادّعى ابن الحاجب في أماليه على هذه الآية بالقاهرة سنة ست عشرة وستمائة: أنّ من شأن لغة العرب إذا ذكروا علة وكان للعلة علة قَدّموا ذكر علة العلة وجعلوا العلة معطوفة عليها بالفاء لتحصل الدلالتان معاً بعبارة واحدة. ومثَّله بالمثال الذي مثَّل به «الكشاف»، وظاهر كلامه أنّ ذلك مُلتزم ولم أره لِغيره. والذي أراه أنّ سبب العدول في مثله أنّ العلة تارة تكون بسيطة كقولك: فعلت كذا إكراماً لك، وتارة تكون مركّبة من دفع ضُر وجلب نَفْع بدفعِه. فهنالك يأتي المتكلم في تعليله بما يدل على الأمرين في صورة علة واحدة إيجازاً في الكلام كما في الآية والمثالين. لأنّ المقصود من التعدد خشية حصول النسيان للمرأة المنفردة، فلذا أخِذ بقولها حَقُّ المشهود عليه وقُصد تذكير المرأة الثانية إياها، وهذا أحسن مما ذكره صاحب «الكشاف». وفي قوله: {فتذكر إحداهما الأخرى} إظهار في مقام الإضمار لأنّ مقتضى الظاهر أن يقول فتذكّرها الأخرى، وذلك أن الإحدى والأخرى وصفان مبهمان لا يتعيّن شخص المقصود بهما، فكيفما وضعتَهما في موضعي الفاعل والمفعول كان المعنى واحداً، فلو أضمر للإحدى ضمير المفعول لكان المعاد واضحاً سواء كان قوله أحداهما المظهر فاعلاً أو مفعولاً به، فلا يظنّ أن كَون لفظ إحداهما المظهر في الآية فاعلاً ينافي كونه إظهاراً في مقام الإضمار لأنّه لو أضمر لكان الضمير مفعولاً، والمفعول غير الفاعل كما قد ظنّه التفتازاني لأنّ المنظور إليه في اعتبار الإظهار في مقام الإضمار هو تأتي الإضمار مع اتّحاد المعنى. وهو موجود في الآية كما لا يخفى. ثم نكتة الإظهار هنا قد تحيّرت فيها أفكار المفسرين ولم يتعرّض لها المتقدمون، قال التفتازاني في «شرح الكشاف»: «ومما ينبغي أن يتعرض له وجه تكرير لفظ إحداهما، ولا خفاء في أنّه ليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكِّرة هي الناسية إلاّ أن يجعل إحداهما الثانية في موقع المفعول، ولا يجوز ذلك لتقديم المفعول في موضع الإلباس، ويصح أن يقال: فتذكرها الأخرى، فلا بد للعدول من نكتة». وقال العصام في «حاشية البيضاوي» «نكتة التكرير أنّه كان فصل التركيب أن تذكّر إحداهما الأخرى إن ضلّت، فلما قدّم إن ضلّت وأبرز في معرض العلّة لم يصح الإضمار (أي لعدم تقدم إمعاد) ولم يصح أن تضلّ الأخرى لأنّه لا يحسن قبل ذكر إحداهما (أي لأنّ الأخرى لا يكون وصفاً إلاّ في مقابلة وصف مقابل مذكور) فأبدل بإحداهما (أي أبدل موقع لفظ لأخرى بلفظ إحداهما) ولم يغيّر ما هو أصل العلّة عن هيأته لأنّه كأن لم يقدم عليه، {أن تضلّ إحداهما} يعني فهذا وجه الإظهار. وقال الخفاجي في «حاشية التفسير» «قالوا: إنّ النكتة الإبهام لأنّ كل واحدة من المرأتين يجوز عليها ما يجوز على صاحبتها من الضلال والتذكير، فدخل الكلام في معنى العموم» يعني أنّه أظهر لئلاّ يتوهم أنّ إحدى المرأتين لا تكون إلاّ مذكِّرة الأخرى، فلا تكون شاهدة بالأصالة. وأصل هذا الجواب لشهاب الدين الغزنوي عصري الخفاجي عن سؤال وجّهه إليه الخفاجي، وهذا السؤال: يا رأس أهل العلوم السادةِ البرره *** ومَن نداه على كل الورى نَشَره ما سِرُّ تَكْرَار إحدَى دون تُذْكِرُها *** في آية لذوي الأشهاد في البقره وظاهر الحال إيجاز الضمير على *** تكرار إحداهما لو أنّه ذكره وحَمل الإحدى على نفس الشهادة في *** أولاهما ليس مرضياً لدى المهره فغُص بفكرك لاستخراج جوهره *** من بحر علمك ثم ابعث لنا درره فأجاب الغزنوي: يا من فوائده بالعلم منتشره *** ومَن فضائله في الكون مشتهره تَضلَّ إحداهما فالقولُ محتمل *** كِلَيهما فهي للإظهار مفتقره ولو أتى بضمير كان مقتضيا *** تعيين واحدة للحكم معتبره ومن رَدَدْتُم عليه الحَلّ فهو كما *** أشرتُم ليس مرضيا لمن سبَره هذا الذي سمح الذهن الكليل به *** واللَّهُ أعلم في الفحوى بما ذكره وقد أشار السؤال والجواب إلى ردّ على جواب لأبي القاسم المغربي في تفسيره؛ إذ جعل إحداهما الأولَ مراداً به إحدى الشهادتين، وجعل تضلّ بمعنى تتلف بالنسيان، وجعل إحداهما الثاني مراداً به إحدى المرأتين. ولما اختلف المدلول لم يبق إظهار في مقام الإضمار، وهو تكلّف وتشتيت للضمائر لا دليل عليه، فينزّه تخريج كلام الله عليه، وهو الذي عناه الغزنوي بقوله: «ومن رَدَدْتُم عليه الحَلّ إلخ». والذي أراه أنّ هذا الإظهار في مقام الإضمار لنكتة هي قصد استقلال الجملة بمدلولها كيلا تحتاج إلى كلام آخر فيه مَعاد الضمير لَو أضمر، وذلك يرشّح الجملة لأن تَجري مَجرى المثل. وكأنّ المراد هنا الإيماء إلى أنّ كلتا الجملتين علّة لمشروعية تعدّد المرأة في الشهادة، فالمرأة معرضة لتطرق النسيان إليها وقلة ضبط ما يهم ضبطه، والتعدد مظنّة لاختلاف مواد النقص والخلل، فعسى ألا تنسى إحداهما ما نسيته الأخرى. فقوله أن تضلّ تعليل لعدم الاكتفاء بالواحدة، وقوله: {فتذكر إحداهما الأخرى} تعليل لإشهاد امرأة ثانية حتى لا تبطل شهادة الأولى من أصلها. {وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ}. عُطف {ولا يأب} على {واستشهدوا شهيدين} لأنّه لما أمر المتعاقدين باستشهاد شاهدين نَهى من يُطلب إشهاده عن أن يأبَى، ليتم المطلوب وهو الإشهاد. وإنما جيء في خطاب المتعاقدين بصيغة الأمر وجيء في خطاب الشهداء بصيغة النهي اهتماماً بما فيه التفريط. فإنّ المتعَاقدين يظنّ بهما إهمال الإشهاد فأمرا به، والشهود يظنّ بهم الامتناع فنهوا عنه، وكل يستلزم ضدّه. وتسمية المدعوِّينَ شهداء باعتبار الأوّل القريببِ، وهو المشارفة، وكأنَّ في ذلك نكتة عظيمة: وهي الإيماء إلى أنّهم بمجرّد دعوتهم إلى الإشهاد، قد تعيّنت عليهم الإجابة، فصاروا شهداء. وحذف معمول دُعوا إمّا لظهوره من قوله قبله {واستشهدوا شهيدين} أي إذا ما دعوا إلى الشهادة أي التحمّل، وهذا قول قتادة، والربيع بن سليمان، ونقل عن ابن عباس، فالنهي عن الإباية عند الدعاء إلى الشهادة حاصل بالأوْلى، ويجوز أن يكون حذف المعمول لقصد العموم، أي إذا ما دعوا للتحمّل والأداء معاً؛ قاله الحسن، وابن عباس، وقال مجاهد: إذا ما دعوا إلى الأداء خاصة، ولعلّ الذي حمله على ذلك هو قوله: {الشهداء} لأنّهم لا يكونون شهداء حقيقة إلاّ بعد التحمّل، ويبعده أنّ الله تعالى قال بعد هذا {ولا تكتموا الشهادة} [البقرة: 283] وذلك نهي عن الإباية عند الدعوة للأداء. والذي يظهر أنّ حذف المتعلِّق بفعل {دعوا} لإفادة شمول ما يُدعَون لأجله في التعاقد: من تحمّل، عند قصد الإشهاد، ومن أداء، عند الاحتياج إلى البيّنة. قال ابن الحاجب: «والتحمّل حيث يفتقر إليه فرض كفاية والأداء من نحو البريدين إن كانا اثنين فرضُ عين، ولا تحِلُّ إحالته على اليمين». والقول في مقتضى النهي هنا كالقول في قوله: {ولا يأب كاتب} ويظهر أنّ التحمّل يتعيّن بالتعيين من الإمام، أو بما يعينه، وكان الشأن أن يكون فرض عين إلاّ لِضرورة فينتقل المتعاقدان لآخر، وأما الأداء ففرض عين إن كان لا مضرة فيه على الشاهد في بدنه، أو ماله، وعند أبي حنيفة الأداء فرض كفاية إلاّ إذا تعيَّن عليه: بأن لا يوجد بَدَلُه، وإنّما يجب بشرط عدالة القاضي، وقرب المكان: بأن يرجع الشاهد إلى منزله في يومه، وعِلْمِه بأنّه تقبل شهادته، وطلب المدّعي. وفي هذه التعليقات ردّ بالشهادة إلى مختلف اجتهادات الشهود، وذلك باب من التأويلات لا ينبغي فتحه. قال القرطبي: «يؤخذ من هذه الآية أنّه يجوز للإمام أن يقيم للناس شهوداً، ويجعل لهم كفايتهم من بيت المال، فلا يكون لهم شغل إلاّ تحمل حقوق الناس حفظاً لها». قلت: وقد أحسن. قضاة تونس المتقدّمون، وأمراؤها، في تعيين شهود مُنتصبين للشهادة بين الناس، يؤخذون ممّن يقبلهم القضاة ويعرفونهم بالعدالة، وكذلك كان الأمر في الأندلس، وذلك من حسن النظر للأمة، ولم يكن ذلك متّبعاً في بلاد المشرق، بل كانوا يكتفون بشهرة عدالة بعض الفقهاء وضبطهم للشروط وكَتب الوثائق فيعتمدهم القضاة، ويكلون إليهم ما يجري في النوازِل من كتابة الدعوى والأحكام، وكان ممّا يعدّ في ترجمة بعض العلماء أن يقال: كان مقبولاً عند القاضي فلان. {وَلاَ تسھموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلى أَجَلِهِ}. تعميم في أكوان أو أحوال الديون المأمور بكتابتها، فالصغير والكبير هنا مَجازان في الحقير والجليل. والمعاملات الصغيرة أكثر من الكبيرة، فلذلك نُهوا عن السآمة هنا. والسآمة: الملل من تكرير فعللٍ مَّا. والخطاب للمتداينين أصالة، ويستتبع ذلك خطاب الكاتب: لأنّ المتداينين إذا دعواه للكتابة وجب عليه أن يكتب. والنهي عنها نهي عن أثرها، وهو ترك الكتابة، لأنّ السآمة تحصل للنفس من غير اختيار، فلا ينهى عنها في ذاتها، وقيل السآمة هنا كناية عن الكسل والتهاون. وانتصب صغيراً أو كبيراً على الحال من الضمير المنصوب بتكتبوه، أو على حذف كانَ مع اسمها. وتقديم الصغير على الكبير هنا، مع أنّ مقتضى الظاهر العكس، كتقديم السِنة على النوم في قوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255] لأنّه قصد هنا إلى التنصيص على العموم لدفع ما يطرأ من التوهّمات في قلة الاعتناء بالصغير، وهو أكثر، أو اعتقاد عدم وجوب كتابة الكبير، لو اقتصر في اللفظ على الصغير. وجملة {إلى أجله} حال من الضمير المنصوب بتكتبوه، أي مُغيَّى الدّينُ إلى أجله الذي تعاقدا عليه، والمراد التغيية في الكتابة. {ذلكم أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْوَمُ للشهادة وأدنى أَلاَّ ترتابوا}. تصريح بالعلة لتشريع الأمر بالكتابة: بأنّ الكتابة فيها زيادة التوثّق، وهو أقسط أي أشدّ قسطاً، أي عدلاً، لأنّه أحفظ للحق، وأقوم للشهادة، أي أعون على إقامتها، وأقرب إلى نفي الريبة والشك، فهذه ثلاث علل، ويستخرج منها أنّ المقصد الشرعي أن تكون الشهادة في الحقوق بيّنة، واضحة، بعيدة عن الاحتمالات، والتوهّمات. واسم الإشارة عائد إلى جميع ما تقدم باعتبار أنّه مذكور، فلذلك أشير إليه باسم إشارة الواحد. وفي الآية حجّة لجواز تعليل الحكم الشرعي بعلل متعدّدة وهذا لا ينبغي الاختلاف فيه. واشتقاق {أقْسَطُ} من أقْسَطَ بمعنى عدل، وهو رباعي، وليس من قَسَط لأنّه بمعنى جَار، وكذا اشتقاق {أقْوَمُ} من أقام الشهادةَ إذا أظهرها جارٍ على قول سيبويه بجواز صوغ التفضيل والتعجّب من الرباعي المهموز، سواء كانت الهمزة للتعدية نحو أعطى أم لغير التعدية نحو أفْرط. وجوّز صاحب «الكشّاف» أن يكون أقسط مشتقاً من قاسط بمعنى ذي قسط أي صيغةِ نسب وهو مشكل، إذ ليس لهذه الزنة فعل. واستشكل أيضاً بأنّ صوغه من الجامد أشدّ من صوغه من الرباعي. والجواب عندي أنّ النسبَ هنا لما كان إلى المصدر شابَه المشتق: إذ المصدر أصل الاشتقاق، وأن يكون أقوم مشتقاً من قام الذي هو محوّل إلى وزن فَعُلَ بضم العين الدال على السجيّة، الذي يجيء منه قويم صفة مشبّهة. {إِلاَ أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا}. استثناء من عموم الأحوال أو الأكوان في قوله: {صغيراً أو كبيراً}. وهو استثناء؛ قيل منقطع، لأنّ التجارة الحاضرة ليست من الدين في شيء، والتقدير: إلاّ كونَ تجارةٍ حاضرة. والحاضرة الناجزة، التي لا تأخير فيها، إذ الحاضر، والعاجل، والناجز: مترادفة. والدين، والأجل، والنّسيئة: مترادفة. وقوله: {تديرونها بينكم} بيان لجملةِ {أن تكون تجارة حاضرة} بل البيان في مثل هذا، أقرب منه في قول الشاعر ممّا أنشده ابن الأعرابي في نوادره، وقال العيني: ينسب إلى الفرزدق: إلى الله أشكُو بالمدينةِ حاجة *** وبالشَّام أخرى كيفَ يلتقيان إذ جعل صاحب «الكشاف» كيفَ يلتقيان بياناً لحاجةٍ وأخرى، أو تجعل {تديرونها} صفة ثانية لتجارة في معنى البيان، ولعلّ فائدة ذكره الإيماءُ إلى تعليل الرخصة في ترك الكتابة، لأنّ إدارتها أغنت عن الكتابة. وقيل: الاستثناء متّصل، والمراد بالتجارة الحاضرة المؤجّلة إلى أجل قريب، فهي من جملة الديون، رخص فيها ترك الكتابة بها، وهذا بعيد. وقوله: {فليس عليكم جناح ألا تكتبوها} تصريح بمفهوم الاستثناء، مع ما في زيادة قوله: {جُناح} من الإشارة إلى أنّ هذا الحكم رخصة، لأنّ رفع الجناح مؤذن بأنّ الكتابة أولى وأحسن. وقرأ الجمهور تجارةٌ بالرفع: على أنّ تكونَ تامة، وقرأه عاصم بالنصب: على أنّ تكونَ ناقصة، وأنّ في فعل تكون ضميراً مستتراً عائداً على ما يفيده خبر كان، أي إلاّ أن تكون التجارةُ تجارةً حاضرة، كما في قول عَمّرو بن شاس-أنشده سيبويه-: بنِي أسد هل تعلمون بلاءَنَا *** إذَا كان يوماً ذَا كَوَاكِبَ أشْنَعا تقديره إذا كان اليومُ يوماً ذا كواكب، وقوله: {ألا} أصله أن لا فرسم مدغماً. {وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}. تشريع للإشهاد عند البيع ولو بغير دين إذا كان البيع غيرَ تجارة حاضرة، وهذا إكمال لصور المعاملة: فإنّها إمّا تداين، أو آيل إليه كالبيع بدين، وإمّا تناجز في تجارة، وإمّا تناجز في غير تجارة كبيع العقار والعروض في غير التجر. وقيل: المراد بتبايعتم التجارة، فتكون الرخصة في ترك الكتابة مع بقاء الإشهاد بدون كتابة، وهذا بعيد جداً، لأنّ الكتابة ما شُرعت إلاّ لأجل الإشهاد والتوثّق. وقوله تعالى: {وأشهدوا} أمر: قيل هو للوجوب، وهذا قول أبي موسى الأشعري، وابن عمر، وأبي سعيد الخُدْري، وسعيد بن المسيّب، ومجاهد، والضحّاك، وعطاء، وابن جريج، والنخعي، وجابر بن زيد، وداوود الظاهري، والطبري. وقد أشهد النبي صلى الله عليه وسلم على بيع عبد باعه للعَدّاء بن خالد بن هوذة، وكتَب في ذلك «باسم الله الرحمان الرحيم، هذا ما اشترى العَدّاء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله اشترى منه عبداً لا داءَ ولا غائلة ولا خِبثة بيعَ المُسلم للمُسلم» وقيل: هو للندب وذهب إليه من السلف الحسن، والشعبي، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وتمسّكوا بالسنّة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم باع ولم يُشهد، قاله ابن العربي، وجوابه: أنّ ذلك في مواضع الائتمان، وسيجيء قوله تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضاً} [البقرة: 283] الآية وقد تقدم ما لابن عطية في توجيه عدم الوجوب ورَدُّنا له عند قوله تعالى: {فاكتبوه}. {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}. نهي عن المضارّة وهي تحتمل أن يكون الكاتب والشهيد مصدراً للإضرار، أو أن يكون المكتوب له والمشهود له مصدراً للإضرار: لأن يضارّ يحتمل البناء للمعلوم وللمجهول، ولعلّ اختيار هذه المادة هنا مقصود، لاحتمالها حكمين، ليكون الكلام موجّهاً فيحمل على كلا معنييه لعدم تنافيهما، وهذا من وجه الإعجاز. والمضارّة: إدخال الضرّ بأن يوقع المتعاقدان الشاهدين والكاتب في الحَرج والخسارة، أو ما يجر إلى العقوبة، وأن يوقع الشاهدان أحدَ المتعاقدين في إضاعة حق أو تعب في الإجابة إلى الشهادة. وقد أخذ فقهاؤنا من هاته الآية أحكاماً كثيرة تتفرّع عن الإضرار: منها ركوب الشاهد من المسافة البعيدة، ومنها ترك استفساره بعد المدة الطويلة التي هي مظنّة النسيان، ومنها استفساره استفساراً يوقعه في الاضطراب، ويؤخذ منها أنّه ينبغي لولاة الأمور جعل جانب من مال بيت المال لدفع مصاريف انتقال الشهود وإقامتهم في غير بلدهم وتعويض ما سينالهم من ذلك الانتقاللِ من الخسائر المالية في إضاعة عائلاتهم، إعانة على إقامة العدل بقدر الطاقة والسعة. وقوله تعالى: {وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم} حذف مفعول تفعلوا وهو معلوم، لأنّه الإضرارُ المستفاد من لا يضارّ مثلُ «اعدلوا هو أقرب» والفسوق: الإثم العظيم، قال تعالى: {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} [الحجرات: 11]. {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. أمر بالتّقوى لأنّها مِلاك الخير، وبها يكون ترك الفسوق. وقوله: {ويعلمكم الله} تذكير بنعمة الإسلام، الذي أخرجهم من الجهالة إلى العلم بالشريعة، ونظام العالم، وهو أكبر العلوم وأنفعها، ووعدٌ بدوام ذلك لأنّه جيء فيه بالمضارع، وفي عطفه على الأمر بالتقوى إيماء إلى أنّ التقوى سبب إفاضة العلوم، حتى قيل: إنّ الواو فيه للتعليل أي ليعلّمكم. وجعله بعضهم من معاني الواو، وليس بصحيح. وإظهار اسم الجلالة في الجمل الثلاث: لقصد التنويه بكلّ جملة منها حتى تكون مستقلّة الدلالةِ، غيرَ محتاجة إلى غيرها المشتمل على معادِ ضميرها، حتى إذا سمع السامع كلّ واحدة منها حصل له علم مستقلّ، وقد لا يسمع إحداها فلا يضرّه ذلك في فهم أخراها، ونظير هذا الإظهار قول الحماسي: اللُّؤْمُ أكْرَمُ من وَبْرٍ ووالدِهِ *** واللؤمُ أكرَمُ من وَبْرٍ ومَا وَلَدا واللؤم داءٌ لوَبْرٍ يُقْتَلُونَ به *** لا يُقْتَلُونَ بدَاءٍ غيرِه أبدا فإنّه لما قصد التشنيع بالقبيلة ومَنْ وَلَدَها، ومَا ولدته، أظهر اللّؤم في الجمل الثلاث ولما كانت الجملة الرابعة كالتأكيد للثالثة لم يظهر اسم اللؤم بها. هذا، ولإظهار اسم الجلالة نكتة أخرى وهي التهويل. وللتكرير مواقع يحسن فيها، ومواقع لا يحسن فيها، قال الشيخ في «دلائل الإعجاز»، في الخاتمة التي ذكر فيها أنّ الذوق قد يدرك أشياء لا يُهتدى لأسبابها، وأنّ ببعض الأئمة قد يعرض له الخطأ في التأويل: «ومن ذلك ما حكي عن الصاحب أنّه قال: كان الأستاذ ابن العميد يختار من شعر ابن الرومي وينقط على ما يختاره، قال الصاحب فدفع إليّ القصيدة التي أولها: أتَحْتَ ضلوعي جمرةٌ تتوقّد *** على ما مضى أم حسْرة تتجدّد وقال لي: تأمّلها، فتأمَّلتها فوجدته قد ترك خير بيت فيها لم ينقِّط عليه وهو قوله: بجَهْللٍ كجهل السيففِ والسيفُ منتضًى *** وحِلْممٍ كحلم السيف والسيفُ مُغْمَدُ فقلت: لِمَ تركَ الأستاذُ هذا البيت؟ فقال: لعلّ القلم تجاوزه، ثم رآني من بعد فاعتذر بعذر كان شرّاً من تركه؛ فقال: إنّما تركته لأنّه أعادَ السيف أربع مرات، قال الصاحب: لو لم يعده لفسد البيت، قال الشيخ عبد القاهر: والأمر كما قال الصاحب ثم قال قاله أبو يعقوب: إنّ الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف لأجل ذلك كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى: {وبالحق أنزلته وبالحق نزل} [الإسراء: 105] وقوله: {قل هو الله أحد، الله الصمد} [الصمد: 1، 2] عَمَل لولاه لم يكن. وقال الراغب: قد استكرهوا التكرير في قوله: فما للنَّوى جُذّ النَّوى قُطِع النَّوَى *** حتى قيل: لو سلّط بعير على هذا البيت لرَعى ما فيه من النَّوى، ثم قال: إنّ التكرير المستحسن هو تكرير يقع على طريق التعظيم، أو التحقير، في جمل متواليات كلّ جملة منها مستقلة بنفسها، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل في معنى، ولم يكن فيه معنى التعظيم والتحقير، فالراغب موافق للأستاذ ابن العميد، وعبدُ القاهر موافقٌ للصاحب بن عباد، قال المرزوقي في شرح الحماسة عند قول يحيى بن زياد: لَمَّا رَأيتُ الشيبَ لاح بياضُه *** بمَفرِققِ رأسي قُلتُ للشيب مرحبا «كان الواجب أن يقول: قلت له مرحباً، لكنّهم يكرّرون الأعلام وأسماءَ الأجناس كثيراً والقصد بالتكرير التفخيم». واعلم أنّه ليس التكرير بمقصور على التعظيم بل مقامه كلّ مقام يراد منه تسجيل انتساب الفعل إلى صاحب الاسم المكرّر، كما تقدّم في بيتي الحماسة: «اللؤم أكرم من وبر» إلخ. وقد وقع التكرير متعاقباً في قوله تعالى في سورة آل عمران (78): {وإن منهم لفريقاً يلون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.}
|